فقه القرآن (لليزدي) جلد 4

اشارة

نام كتاب: فقه القرآن

موضوع: آيات الأحكام

نويسنده: يزدي، محمد

تاريخ وفات مؤلف: ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 4

ناشر: مؤسسه اسماعيليان

تاريخ نشر: 1415 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

محتويات الجزء الرابع من كتاب فقه القرآن

المقدمة 151

كتاب المحرمات 153

الفصل الأول: الكليات 156

الفصل الثاني: أنواع الذنوب 158

تنبيه و توجيه 161

الفصل الثالث: في بيان الذنوب و تعدادها 163

الارتداد 164

النفاق 169

الافتراء علي اللّه تعالي 170

تولّي الكفّار 182

حرمة تولّي أهل الكتاب 191

المنافق الذي لم يحكم بكفره 199

تنبيه 205

خاتمة المطاف 209

قتل النفس المحترمة 212

قتل الأولاد 213

الوأد- الاسقاط 214

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 148

قتل المؤمن 215

نذر عبد المطلب 216

الزّنا 218

اللواط 220

الخمر و الميسر 221

التطفيف 224

الرشوة 229

أكل مال اليتيم 232

الفتنة 234

الغيبة 235

التهمة 236

الكذب 237

السب 238

فصل من التوبة و الاستغفار 239

تذييل في خلاصة الابحاث 245

الاعذار 250

التوسل و الاستشفاع 256

كتاب الأطعمة و الأشربة 263

الفصل الأول: الاطلاقات 266

الفصل الثاني: خصوصيات المطعوم 271

الفصل الثالث: المحرمات 278

خاتمة فيها مسائل 284

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 149

الاسراف 287

الرزق 289

ختام في بحث الرزق 297

تذييل في فروع الكتاب 298

كتاب المجتمع و الآداب 301

الفصل الأول: المؤمن و والديه 303

الفصل الثاني: المؤمن و أسرته 307

الفصل الثالث: المؤمن و عشيرته 310

الفصل الرابع: المؤمن و شعبه

أ- الأمير و المؤمنين 314

ب- المؤمنين و أميرهم 317

ج- المؤمنات و المؤمنين و بالعكس 323

د- المؤمنين بعضهم مع بعض 330

ه- في خصائص الشعب المؤمن 338

نتيجة الأبحاث 345

كتاب الوصيّة 353

تذييل في نتيجة الأبحاث 360

كتاب الإرث 361

خاتمة في العول و التعصيب 374

تذييل في نتيجة الأبحاث 375

كتاب الدعاء و الابتهال 379

الدعاء و الابتهال في القرآن 381

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 150

الأمر الأول- في أصل رجحان الدعاء 382

الأمر الثاني- في كيفية الدعاء 383

الأمر الثالث- فيما ينبغي ان يدعي به اللّه من الاسماء 386

الأمر الرابع- فيما ينبغي ان يطلبه الداعي من اللّه 388

فقه

القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 151

المقدمة:

نشرع في تنظيم الجزء الرابع و استنساخه من هذا الجهد «فقه القرآن» بعون اللّه الملك العلّام بعد نجاح الثورة الاسلامية العظيمة في تاريخ الاسلام بقيادة الإمام الأعظم جامع المعقول و المنقول مفخر الاسلام و ملجأ المسلمين و مبدأ توجيه حركة تاريخ الاسلام الي الأمام و محيي روح القرآن و المعارف الإلهية في جسم الناس و الزمان أستاذنا الأعظم آية اللّه العظمي الحاج السيد روح اللّه الموسوي الخميني (دام ظلّه الوارف علي رءوس المسلمين) و نحن الآن محتفلون في مجلس الخبراء الاسلامي لترتيب و تأليف و تنظيم دستور الجمهورية الاسلامية الايرانية، و ذلك في شهر شوال لسنة تسع و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة المباركة 1399.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 153

كتاب المحرّمات

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 155

المحرّمات

لا اشكال في اشتمال أحكام اللّه تعالي علي منهيّات و محذورات كاشتمالها علي مأمورات و مطلوبات، و من المعلوم ان اعتبار كلّ غير الآخر، فان الطلب ان كان تعلق بالفعل فهو مطلوب وجوبا أو استحبابا حسب شدّة الإرادة و ضعفها؛ و بعبارة اخري أدقّ و أصحّ في معناها حسب كثرة المصلحة و قلّتها في المتعلّق، و ان تعلق بالترك فهو محذور حرمة أو كراهة حسب درجة المفسدة في وجود المتعلّق، و ليس من المحرّمات الشرعية ترك الواجب فان المصلحة في وجوده تفوت بتركه و لا مفسدة في تركه غير فوت المصلحة كما انه ليس من الواجبات الشرعيّة ترك المحرّمات فان المفسدة في وجودها و لا مصلحة في تركها غير ترك المفسدة فهما متغايران جوهرا لا اعتبارا فقط و ان صح اطلاق الواجب علي ترك الحرام و الحرام علي ترك الواجب عقلا.

و حيث ان ترك المشتهيات أشقّ علي النفوس

و أسرع في تقريب العبد الي المولي تري الآيات في الذكر الحكيم تعني به عناية خاصة، فإن أزهد الناس من ترك المحرّمات، كما في الحديث، و لذلك عقدنا لها كتابا. و من المعلوم انّ الحرمة التكليفية الكاشفة عن الكراهة لوجود المفسدة في التحقق هي المبحوث عنها في المقام دون الوضعية بمعني عدم الصحة أو عدم الوقوع كما في المعاملات.

و في الكتاب فصول:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 156

الفصل الأول: الكليات

و فيه آيات؛ الأولي- قوله تعالي:

قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلّٰا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً وَ لٰا تَقْتُلُوا أَوْلٰادَكُمْ مِنْ إِمْلٰاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ وَ لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ وَ لٰا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰهُ إِلّٰا بِالْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.

(الانعام [6] الآية 151)

ان اللّه تعالي يأمر نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بدعوة الذين لا يؤمنون بالآخرة و هم بربهم يعدلون الأصنام، لبيان المحرّمات عليهم في الجملة أي المحرّمات التي علي كل انسان ان يتركها بما هو انسان و ان لم يكن منتحلا بدين؛ منها الشرك باللّه العزيز، و قتل الأولاد خشية املاق، و قتل النفس؛ و بالجملة: اجتناب القبائح و الفواحش ما ظهر منها و ما بطن.

و من المعلوم ان المقام ليس لبيان جميع المحرّمات لتنحصر في المذكورات بل عدّ بعض مهامها في الجملة و أشار الي الباقي بالجملة؛ فالآية تدلّ علي وجود محرّمات لا بدّ من تركها علي كل مؤمن باللّه و اليوم الآخر أيضا.

الثانية- قوله تعالي:

وَ ذَرُوا ظٰاهِرَ الْإِثْمِ وَ بٰاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمٰا كٰانُوا يَقْتَرِفُونَ. (الانعام [6] الآية 120)

تأمر الآية بترك المحرّمات و الآثام ظاهريّة و

باطنية و تبين ان الذين يقترفون الذنوب سيجزون بما كانوا يكسبون حسب مراتب سيئاتهم فتدلّ علي ان هناك محرّمات منهيات و انها قسمان ظاهريّة و باطنية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 157

الثالثة- قوله تعالي:

قُلْ إِنَّمٰا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطٰاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَي اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ.

(الاعراف [7] الآية 33)

الآية بعد الردّ علي من حرّم زينة اللّه و انها للذين آمنوا في الحياة الدنيا، بيّنت ان الحرام هو الفاحش القبيح ما ظهر منها و ما بطن و الاثم و البغي و الشرك و القول بغير العلم فتدلّ علي ان هناك فواحش حرّمها اللّه تعالي و انّها قسمان ظاهريّة و باطنية و ذكر لكل منهما مثالا من الشرك باللّه للثاني و البغي للأول و ليس في مقام بيان الجميع.

الرابعة- قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ. (النور [24] الآية 19)

الآية تفيد ان هناك محرما مبغوضا غير نفس الفحشاء و المنكر و هو حبّ اشاعتهما بين المؤمنين حتّي يصيرا أمرا عاديّا متعارفا، فينقلب المنكر معروفا و المعروف منكرا، و من المعلوم ان نفس حبّ ذلك لو لم يظهره ليس بذنب، نعم يكشف عن كيفية تفكير المحب الذي يبعثه نحو العمل و تسبيب ما ينتج الشيوع و السريان، من القول و الكتابة و العمل، و بذلك لهم عذاب أليم في الدنيا لتحصّل آثار أعمالهم في معاشهم، و في الآخرة لاقترافهم السيئات و قذفهم النواهي وراء الظهور و تجسّم الاعمال في دار القرار.

و

أنت تعلم ان مقترف الذنب زائدا علي ابتلائه بآثار عمله و نتائج فعله في الدارين، يتباعد عن المولي بنفس العصيان و ترك الاعتناء به و التوجّه إليه و عدم التحفظ علي مقامه و حقوقه؛ و أشد العذاب و أحرق النار البعد عن الربّ المحبوب أعاذنا اللّه منه و من شرور أنفسنا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 158

فالآية تدلّ علي ان نفس الفحشاء محرم مبغوض، و شيوعه و كثرته في الناس أبغض. فهناك محرمات إجمالا لا بدّ من تركها و ترك كل ما يوجب اشاعتها من ذكر أو كتابة أو تصوير، و بكل مظاهر الحياة، فلا بد من التستر علي الذنب لا التجلي بكل بكل شعائرها كما هو كذلك في بلاد الكفر و- مع الأسف- في كثير من بلاد الاسلام لغلبتهم بأيادي خدّام و غلمان لا يعرفون إلا التسليم و القبول مقابل الاحتفاظ بمناصبهم و حكوماتهم الجائرة قطع اللّه أياديهم عن الاسلام و المسلمين ان شاء اللّه.

الفصل الثاني: أنواع الذنوب

اشارة

ان الذنوب كبائر و صغائر تشير إليها آيات؛ الأولي- قوله تعالي:

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً. (النساء [4] الآية 31)

تهدف الآية الكريمة بيان حال مقترف الذنب و مرتكبه و أنّ الصغائر من الذنوب و السيئات أمرها أسهل، و اللّه تعالي يكفّرها و يغفرها بشرط الاجتناب و التحرّز عن ارتكاب الكبائر.

و نفس الانسان اذا اقترفت صغيرة ستدرج- إن لم تتب- الي أكبر منها و هكذا حتي تنتهي الي أكبر الكبائر و هو الشرك باللّه تعالي و الكفر به أعاذنا اللّه من ذلك.

قال تعالي: ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا السُّوايٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ كٰانُوا بِهٰا يَسْتَهْزِؤُنَ (الروم [30] الآية 10)، و قال أيضا:

وَ

الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لٰا يَعْلَمُونَ.

(الاعراف [7] الآية 182)

و قال أيضا: فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 159

لٰا يَعْلَمُونَ. (القلم [8] الآية 646)

و عليه فالذنب كبير مهما كان صغيرا، و ذلك لتلويثه النفس الزكية و إدراجها في طريق ينتهي الي أكبر الكبائر إن لم يتب صاحبه، و المتطهّر من الذنب بعد التوبة غير الطاهر من بادئ الأمر، و إن كان التائب من الذنب كمن لا ذنب له حكما لا موضوعا، نعم من تاب و آمن و عمل صالحا فله أجره عند ربه، فان التجنّب عن الكبائر و اعتياد النفس بالتحذير منها يستدرج ترك الصغائر أيضا و يستكملها الي تكفير السيئات الواقعة أحيانا؛ و بهذا يدخل الانسان مدخلا كريما من الجنّة و رضوان من اللّه تعالي، و العاقبة للمتقين.

و ظاهر الآية الكريمة ان اجتناب الكبائر بنفسها يوجب تكفير الصغائر من الذنوب أيضا من غير افتقار الي التوبة، و الذنوب مطلقا تكفّر بها، و تقسيم ما تنهون عنه الي الكبائر و الصغائر مفروغ عنه، و لا يقال: إن السيئات المكفّرة باجتناب الكبائر غير الذنوب و هو أعمّ منها، فلا دلالة علي غفران الصغائر من الذنوب، فانه يقال:

التقابل يعطي ان المراد منها الذنوب فان غيرها من السيئات لا يحتاج الي التكفير لا سيما بمثل العامل، اجتناب الكبائر.

الثانية- قال تعالي:

.. وَ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ وَ أَبْقيٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ وَ إِذٰا مٰا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ.

(الشوري [42] الآية 36- 37)

تخبر الآية المباركة عن واقعية تكوينية و هي أن الدنيا- و ما فيها- فان، لا يبقي شرّها و لا خيرها، و

ما عند اللّه خير و أبقي للذين آمنوا و علي ربّهم يتوكّلون، فانهم بايمانهم يعملون الصالحات و يطيعون اللّه تعالي فيعبدونه و يسارعون في الخيرات و يتركون المحرّمات و بتوكّلهم علي اللّه تعالي يدخلون في كل خير و يخرجون من كل شرّ، فيتركون كثيرا ممّا ظاهره الخير الفاني و باطنه الشرّ الباقي، و هم يعترفون بأن اللّه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 160

تعالي هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، فيجتنبون كبائر الإثم و الفواحش في حقوق اللّه تعالي من الشرك و الارتداد و غيرها.. و في حقوق الناس من أكل مال اليتيم و الوقف و غيرها أيضا، و اذا ما غضبوا و خرجوا عن الاعتدال و اقترفوا ما لم يكن من شأنهم فهم يستغفرون علي الفور و يسترون علي ذلك كلّه بحبسه من الجبر و التدارك في حق الناس، و التوبة في حق اللّه تعالي، و ما عند اللّه أبقي للذين آمنوا و علي ربهم يتوكّلون وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ وَ إِذٰا مٰا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، و الآية الكريمة عند بيانها هذه الحقيقة لم تتعرّض لمسألة الذنوب و أنها كبائر و صغائر، و فرض ذلك أمرا مسلّما مفروغا، فتدلّ علي المطلوب بالملازمة.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ لِلّٰهِ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا بِمٰا عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَي* الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وٰاسِعُ الْمَغْفِرَةِ … (النجم [53] الآية 31- 32)

الآية الكريمة تفيد حقيقة اخري أيضا هي أحقّ الحقائق و أجلاها و هي أن للّه ما في السماوات و ما في الأرض، ألا له الخلق و الأمر بملكيّة حقيقية لا اعتبارية، و علي أساس ثابت

و نظام ينتهي الي غاية الآمال و منتهاها، فهو يجزي الذين أساءوا بما عملوا، فان جزاء سيّئة سيئة مثلها، و يجزي الذين أحسنوا بالحسني، و الذين اجتنبوا كبائر الإثم و الفواحش يغفر اللّه تعالي لهم صغائر ذنوبهم و لممها «1» اذا اقترفوا أو اقتربوا منها أحيانا.

فدلالة الآية الكريمة خلال بيان ذلك الأمر علي أن الذنوب و الفواحش قسمان، هي: كبائر و صغائر، كدلالتها علي أن أمر القسم الثاني سهل يمكن غفرانه باجتناب القسم الأول، و هو ظاهر لا كلام فيه.

______________________________

(1)- اللمم: هو مقاربة المعصية، و تكنّي من صغائرها- المفردات-.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 161

تنبيه و توجيه:

الآثام و الفواحش و إن كان يمكن تقسيمها الي أقسام كثيرة إلا أن الآيات الكريمة- كما تراها- لا تقسمها إلا الي قسمين علي ملاك فيها، و هي:

الأول: تقسيمها الي ذنوب ظاهرية و ذنوب باطنية- كما عرفتها في الفصل الأول علي ملاك أن المؤمن لا يترك الذنوب إلا خشية من اللّه تعالي الذي هو علّام الغيوب و الذي لا يخفي عليه شي ء في الأرض و لا في السماء، فيذر الإثم ظاهره و باطنه لا خوفا من الناس و رئائهم حتي يذر الذنوب الظاهرية فيها فقط، و بذلك يعلم أن ملاك التقسيم هذا هو مراعاة الناس و اطلاعهم.

و لعلّ ذلك هو المراد مما ذكره كاشف الغطاء (رحمه اللّه) من تقسيم الذنوب الي ما يتعلّق بالنفس التي تصدر منها من دون وساطة الجوارح و ما يتعلّق بها بوساطتها.

و إلا فلا ملاك في ظاهر كلامه من التقسيم، و قد صرّح بنفسه علي أن المؤاخذة في القسم الثاني تتوقّف علي الإظهار «1»، و أنت تعلم ان الملاك لا بدّ و ان يكون في العامل أو في

الأثر، من ان ما لا يترتّب عليه العقاب إلا بعد الإظهار لا يكون ذنبا قبله، و ان كان سيّئة خلقيّا مثل الكبر و العجب و الحسد و غيرها..

الثاني: تقسيمها الي صغيرة و كبيرة- كما عرفت من آيات الفصل- و ان الأمر الأول أسهل من الثاني، و يغفر اللّه تعالي الصغائر باجتناب الكبائر، و التقسيم علي ملاك الأثر.

و عندنا مقياس الكبر و الصغر توصيف الذنب به في الكتاب من قوله: عظيم أو كبير كما في الشرك، قال تعالي: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، و في أكل مال اليتيم:

إِنَّهُ كٰانَ حُوباً كَبِيراً، أو توصيف مرتكبه بما يجعله في حدّ غير المسلم كما في تولّي الكفّار و الافتراء علي اللّه في الدين، فقال: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ،

______________________________

(1)- كشف الغطاء/ كتاب الجهاد المبحث الثاني.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 162

و قال أيضا: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ.. أو توصيف أثره من العذاب بالشدّة و العظمة كما في القتل و الزنا علي ما سيأتي الكلام عنه إن شاء اللّه.

و الذي يدلّ علي المقياس أنه لا طريق الي اكتشاف شدّة الكراهة و درجة مبغوضية الشي ء لدي المولي إلا ما ذكر، و غير المكشوف ملحق بالصغائر في الظاهر، و عليه فالاختلاف في الذنوب حقيقي ماهويّ، لا أن ذلك أمر نسبيّ و ان كل ذنب صغير بالنسبة الي فرد كبير بالنسبة الي فرد آخر، فان ملاك التقسيم و غفران قسم باجتناب الآخر؛ و ظاهر الآيات الكريمة اتصاف كل ذنب بوصف لا يساعد النسبية و اتصاف كل ذنب بوصفين بالنسبة الي المقترف أو الي ذنب آخر.

و الحاصل: إن الكبائر معدودة مضبوطة علي ملاك خاص، و لا يتمّ ما ورد عن

كاشف الغطاء (رحمه اللّه تعالي) من انها غير معدودة، و الملاك صدق الوصف لدي العرف الشرعي الحاصل بالممارسة، كما لا يتم تقسيم الواجبات و المستحبات بل و حتي المكروهات الي صغير و كبير بارجاع الواجب الي حدّ يوجب تركه الكفر فهو كبير و إلا فصغير «1»، و قد عرفت أن الوجوب و الحرمة لهما اعتباران لا يرجع كل منهما الي الآخر شرعا مع عدم التوصيف بل عدم الإشعار بالوصف في شي ء من أدلّة الواجبات.

______________________________

(1)- و كذا الذي يصف به القرآن الكريم أَصْحٰابُ الشِّمٰالِ الذين هم فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ من إِنَّهُمْ كٰانُوا قَبْلَ ذٰلِكَ مُتْرَفِينَ وَ كٰانُوا يُصِرُّونَ عَلَي الْحِنْثِ الْعَظِيمِ. (الواقعة [56] الآية 45- 56)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 163

الفصل الثالث: في بيان الذنوب و تعدادها

[الاول: الشرك بالله تعالي]

الأول: أكبر الكبائر الشرك باللّه و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ مَنْ يُشٰاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُديٰ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰي وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً* إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلٰالًا بَعِيداً. (النساء [4] الآية 115- 116)

تحكم الآيتان الكريمتان علي من يشاقق الرسول و يخالفه بعد ما تبيّن له الحق من الباطل، و الرشد من الضّلال فاتبع سبيلا غير سبيل المؤمنين و ضلّ عن الصراط المستقيم بأنه سيصلي نار جهنّم و سيكون مأواه السعير و بئس المصير، فان اللّه لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك، و شقاق الرسول مع تبيّن الحق شرك، و الشرك ظلم عظيم لا يغفر، فهو من أعظم الآثام و أكبر الكبائر و دونه تمكن المغفرة لمن آمن باللّه و رسوله و اتبع سبيل

الحق بعد ما تبيّن له الهدي.

الثانية- قوله تعالي:

وَ إِذْ قٰالَ لُقْمٰانُ لِابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يٰا بُنَيَّ لٰا تُشْرِكْ بِاللّٰهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. (لقمان [31] الآية 13)

تنهي الآية الكريمة عن الشرك باللّه معلّلة بأنه ظلم عظيم لتقريرها بنقل ما نهي لقمان ابنه- خلال نصائحه له- عن الشرك و استدلاله له بذلك.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ قٰالَ الْمَسِيحُ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اعْبُدُوا اللّٰهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّٰهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْوٰاهُ النّٰارُ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ. (المائدة [5] الآية 72)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 164

الآية الكريمة بعد بيان قول المسيح لبني إسرائيل و ذكر ما فعلوا بأنبيائهم من تكذيب و قتل نفيا للفتنة بزعمهم فعموا و صمّوا، بعد ذلك حكمت الآية الكريمة بكفر من قال: إنّ اللّه هو المسيح، فهو (عليه السّلام) يخاطب بني إسرائيل بقوله: اعبدوا اللّه ربّي و ربّكم و من يشرك باللّه فقد حرّم اللّه عليه الجنّة و مأواه النار، و الشرك ظلم عظيم وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ، و ذلك الحكم و البيان أدلّ من كل دليل علي أن الشرك من أكبر الكبائر، أعاذنا اللّه منه.

الرابعة- قوله تعالي:

.. وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطٰاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَي اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ. (الاعراف [7] الآية 33)

الآية الكريمة و إن عدّت الشرك باللّه العظيم و كذلك القول عليه تعالي بغير علم كالافتراء عليه في أحكامه و غيره ضمن المحرّمات التي أمر اللّه تعالي نبيّه أن يبيّنها، لكنها لا تدلّ علي انهما من الكبائر و إن كانا محرّمين و من القبائح- كما لا يخفي-.

[الثاني:] الارتداد

الثاني: من الكبائر التي تأتي بعد الشرك الذي هو أعظم الذنوب،

هو الارتداد، و الكفر بعد الإيمان. و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

كَيْفَ يَهْدِي اللّٰهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمٰانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جٰاءَهُمُ الْبَيِّنٰاتُ وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ* أُولٰئِكَ جَزٰاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّٰهِ وَ الْمَلٰائِكَةِ وَ النّٰاسِ أَجْمَعِينَ* خٰالِدِينَ فِيهٰا لٰا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذٰابُ وَ لٰا هُمْ يُنْظَرُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمٰانِهِمْ ثُمَّ ازْدٰادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الضّٰالُّونَ. (آل عمران [3] الآيات 86- 90)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 165

الآيات الكريمة- بعد ما صرّحت بأن غير الاسلام لا يقبل دينا، و أنّ غير المسلم خاسر في الآخرة «1» - تحكم علي من كفر باللّه و رسوله من بعد ما آمن باللّه من قبل و شهد أن الرسول حق بما رأي من الآيات و البيّنات.. تحكم الآية الكريمة عليه بأنه من الظالمين الذين لا يهديهم اللّه، و بكفره هذا قد تباعد عن رحمة اللّه و عناية الملائكة و توجّه الناس، و هو خالد في نار جهنّم لا يخفف عنه العذاب و لا ينظر إليه إلا أن يتوب و يرجع باصلاح عقيدته و إيمانه و يعمل صالحا فينجو بذلك من الخلود في نار جهنّم و العذاب الأليم و إن اللّه لغفور رحيم.

و إن بقي علي ارتداده بعد ما استتيب فهو في ازدياد من الكفر، فكلّما طال عليه الزمان زاد في كفره، فلن تقبل توبته و هو من الضالّين الخالدين في عذاب جهنّم، و حاصل ما تدلّ عليه الآيات المباركة أمران:

الأول: إن الارتداد و الكفر بعد الإيمان ذنب يصلي مقترفه النار و يخلده فيها، فهو من الكبائر لشدّة

أثره الذي هو الخلود من غير تخفيف و نظر.

الثاني: إن المرتدّ لن تقبل توبته إن كان في ازدياد من الكفر و عناد مع الإيمان بعد تبيّن الحق له اذا استتيب فمات و هو كافر، و أما إن تاب و أصلح من غير عناد بأن كان ارتداده لشبهة حصلت له، فاذا جاءته البيّنة و رأي أن الرسول حق زالت شبهته، أو استتيب فان تاب مع بقاء شبهته تقبل توبته فان اللّه غفور رحيم، و ذلك صريح

______________________________

(1)- و لا ينافي ذلك نجاة المستضعفين من غير المسلمين من العذاب بل توفّيهم أجورهم أعمالهم الصالحة بعد ما كانوا مؤمنين باللّه و اليوم الآخر، فان اللّه تعالي لا يضيّع أجر من أحسن عملا، و إن لم ينالوا مراتب عليا في الجنة.

و أنت تعلم ان شرط النجاح و دخول الجنّة هو العمل الصالح و الإيمان باللّه تعالي و اليوم الآخر معا، و لا يكفي العمل بلا إيمان و كذا العكس، و ان الانسان لفي خسر إلّا الذين آمنوا و عملوا الصالحات، و قال تعالي: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمٰالُهُمْ كَرَمٰادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عٰاصِفٍ لٰا يَقْدِرُونَ مِمّٰا كَسَبُوا عَليٰ شَيْ ءٍ ذٰلِكَ هُوَ الضَّلٰالُ الْبَعِيدُ» (إبراهيم [14] الآية 18)، و الكافر أجره (في ما عمله من خير و صلاح) هو ما ناله من شهرة أو مال في الدنيا، و في الآخرة لعلّه يكون تخفيفا له في العذاب في بعض الموارد، و قد أشبعنا الكلام في ذلك في مقدمة رسالتنا: «أسس الايمان في القرآن» بعد ذكر آيات الباب فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 166

الآيات و ظاهر قوله تعالي في آية أخري:.. وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كٰافِرٌ

فَأُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (البقرة [2] الآية 217)، فان التقييد بقوله: فَيَمُتْ وَ هُوَ كٰافِرٌ يفيد نفي النار و الخلود إن تاب و آمن فمات و هو مؤمن أي تقبل توبته.

و احتمال ان الجملة إخبار بأنه يموت و هو كافر فلا تقبل توبته مطلقا لأنه محكوم بالكفر شرعا و إن تاب، مع انه خلاف الظاهر و بعيد عن مذاق الاسلام، معارض حينئذ من صريح الاستثناء في قوله تعالي: إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ في الآية المبحوث عنها تعارض النص و الظاهر و لا إشكال في تقدّم الأول.

و عليه فلا بدّ من القول بقبول توبة المرتدّ لظاهر ما عرفت من الآيات المباركة و صريح قوله تعالي:

يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ مٰا قٰالُوا وَ لَقَدْ قٰالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلٰامِهِمْ- الي قوله تعالي: - فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ … (التوبة [9] الآية 74)

إلا أن المشهور عن الأصحاب أنهم أفتوا في الرجل المرتد الفطري بعدم قبول توبته و أنه يقتل و تقسم أمواله و تبان منه زوجته فتعتدّ عدّة الوفاة استنادا الي روايات صريحة تخصص أو تقيّد «1» بها الآيات.

و مع ذلك فقد أفتي البعض بالقبول، و ان المرتدّ قسم واحد، يستتاب فان تاب فبها و إلا يقتل، كابن جنيد و الاسكافي (رحمهما اللّه).

نعم لا تقتل المرأة بارتدادها بل تحبس، و مال الي ذلك صاحب

______________________________

(1)-.. و في صحيح علي بن جعفر (عليه السّلام) سأل أخاه عن مسلم ارتدّ؟ قال: يقتل و لا يستتاب، قال: فنصرانيّ أسلم ثم ارتدّ عن الاسلام؟ قال: يستتاب فان رجع و إلا قتل.

و في موثق الساباطي عن الصادق (عليه السّلام): كل مسلم بين

المسلمين ارتدّ عن الاسلام و جحد محمدا (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) نبوّته و كذّبه فان دمه مباح لكل من سمع منه، و امرأته بائنة منه يوم ارتدّ فلا تقرب إليه، و يقسم ماله علي ورثته و تعتدّ امرأته عدّة المتوفّي عنها زوجها و علي الإمام الشرعي أن يقتله و لا يستتيبه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 167

المسالك (رحمه اللّه) «1» و صاحب الجواهر أيضا و كذلك الشهرة «2» فهي مستندة و لا تعدّ مانعا.

و العمدة هي روايات الباب، لا بدّ من ملاحظتها، و انها تكون علي حدّ تخصص بها صراحة الآيات أولا، و أنت تعلم ان طرح هذه المسألة أمر مشكل و التخصيص بها أشكل، و للجمع بالعمل بها في الأمور الثلاثة التي هي: القتل، و تقسيم الأموال، و انفصال الزوجة، فقط دون غيرها حتي تقبل توبته إن لم يقتل في زمن ردّته لعدم الثبوت لدي الحاكم أو لعدم بسط يده، لذلك كلّه وجه يؤيده مقتضي السياسة الحكومية و المذاق المعنوي للاسلام، و يمكن تأييده بقوله تعالي في آخر بيان حكم المحارب:

إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(المائدة [5] الآية 34)

و لا نري وجها لأصل عدم القبول عند الشك كما عن صاحب الجواهر (رحمه اللّه) فانه قد أبعد التعارض و التساقط، فالقبول طبيعي في التوبة دون عدمه فان الأصل علي الإصلاح يرجع الي المانع عن تأثير التوبة، و الأصل عدمه كما ان الأصل عدم مانعيّة الارتداد أو الفطرية عن القبول حتي يثبت خلافه.

الثانية- قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدٰادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللّٰهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لٰا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا. (النساء [4]

الآية 137)

الآية الكريمة تدلّ علي أن ازدياد الكفر بعد الايمان فيما اذا كان مسبوقا بالكفر

______________________________

(1)- فانه (رحمه اللّه) بعد نقل فتوي ابن جنيد، قال: و عموم الأدلة المعتبرة تدلّ عليه، و تخصيص عمومها أو تقييد مطلقها برواية عمّار لا يخلو من إشكال. و رواية علي بن جعفر ليست صريحة في التفصيل إلا أن المشهور بل المذهب هو التفصيل المذكور (انتهي). و المستفاد من نقله الطرفين من غير اختيار في ذلك الطرف أو تمايله إليه.

(2)- كتاب الجواهر/ كتاب الحدود.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 168

اللاحق للايمان يهبط بالانسان الي حدّ لا يهتدي سبيلا، و لن يغفر اللّه له، فإن كان يمكن أن يغفر له بعد ما تاب و آمن و عمل صالحا إلا أنه بعد التكرر و ازدياد الكفر كالمستهزئ بالأمر و حاله بعدم المبالاة أشبه من طلب طريق الحق و سبيل الرشد، فلا غفران له و لا يهتدي الي سبيل.

فالآية الكريمة بالإضافة الي ما أفادت الآية الكريمة السابقة تعطي عدم قبول توبة المرتدّ حتي في الملّي مطلقا اذا تكرر الارتداد بعد التوبة و ازداد كفرا.

الثالثة- قوله تعالي:

مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ. (النحل [16] الآية 106)

تخبر الآية الكريمة أيضا بأن الارتداد و الكفر بعد الايمان يورث عظيم العذاب و غضب الرحمن لا مطلقا، بل يشمل من صار مشروح الصدر للكفر، و قد أظهره عن جدّ و واقع لا عن هزل أو تورية أو تقيّة، و ازداد بعدم التوبة، فأولئك الذين طبع اللّه علي قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و أولئك هم الغافلون، لا جرم أنهم

في الآخرة هم الخاسرون. راجع (سورة النحل [16] الآيات 107- 109)

و أما الذين أكرهوا علي الكفر فأظهروه بألسنتهم، و قلوبهم مطمئنة بالإيمان فهم الذين صبروا علي ما فتنوا ثم جاهدوا في سبيل اللّه و طريق الحق بما كان في قلوبهم من الإيمان، فلا شي ء عليهم بما أظهروه و اللّه هو الغفور الرحيم، فان إظهار الكفر في مثل المقام علي الحقيقة هو إبقاء للحق و تحفّظ عليه و ليس بكفر و لا باطل.

و أنت تعلم أن ذلك أمر عقلائي و أصل كلّي في حياة كل مجتمع و فرد سائر في سبيل التعالي و التقدّم، معتن بالتستّر علي الأسرار، مبتغ للرقيّ و المعالي و لا سيما في الموارد التي تتعلق بالكيان و الاعتبار فهي من أعظم أركان الحياة و لا سيما الأمور الاجتماعية منها، و ذلك ضروري ظاهر حتي بالتظاهر علي خلاف الواقع فيما لو توقّف العبور عليه باغفال الخصم و إعمال الحيلة، و لا سيما فيما اذا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 169

أوجب التسامح فساد الأساس و هدم البنيان، و لا معني للتقيّة التي هي دين إمامنا الصادق (عليه السّلام) و دين آبائه المعصومين (عليهم السّلام) غير هذا المعني، فان ذلك من طرق المكافحة بل من أصول المحاربة و أسرار التوفيق و علل التقدّم، لا كما يتوهّم البعض من عوامل الانحطاط و جراثيم التوقّف؛ و الشاهد البالغ هو المورد و عمل عمّار (رضوان اللّه عليه)، و قد أشبعنا الكلام في ذلك تحت عنوان: رسالة في الخباء و الاختباء) فراجع.

[الثالث:] النفاق

الثالث: ثم بعد الارتداد يأتي النفاق و هو ذنب كبير. قال تعالي:

بَشِّرِ الْمُنٰافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً. (النساء [4] الآية 138)

فان المنافق يتظاهر بالاسلام و حدوده و لا

يطمئن به قلبه، فيقول بما لا يعمل و يعمل بغير ما يقول، و هو لا يضرّ بنفسه فقط بل انّه يضرّ بالاسلام و المسلمين و بالشريعة الإلهية و الدين الحنيف و لا سيما اذا كان يرتقي المناصب و مهام الأمور، كما يشير إليه مورد الآيات و سياقها في اتخاذ الكفّار أولياء من دون المؤمنين و سيأتي البحث عنه إن شاء اللّه، فان المنافقين هم الذين يتّخذون الكفّار أولياء من دون المؤمنين يبتغون عندهم العزّة، و لا يعلمون أن العزّة للّه جميعا، و هم الذين يُخٰادِعُونَ اللّٰهَ وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ، وَ إِذٰا قٰامُوا إِلَي الصَّلٰاةِ قٰامُوا كُسٰاليٰ، يُرٰاؤُنَ النّٰاسَ، وَ لٰا يَذْكُرُونَ اللّٰهَ إِلّٰا قَلِيلًا، فلا يكونون مع المؤمنين و لا في طريقتهم حتي يطمئنوا بما اطمأنوا، و لا مع الكفّار و سبيلهم ليكونوا مع الخوالف، بل هم مذبذبين بين ذلك لا الي هؤلاء و لا الي هؤلاء، و من يضلّ اللّه فلن تجد له سبيلا، و بذلك استحقوا أليم العذاب فان اللّٰهَ جٰامِعُ الْمُنٰافِقِينَ وَ الْكٰافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً، و هم في الدرك الأسفل من النار و لن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 170

تجد لهم نصيرا «1».

و من المعلوم أن الذنب الذي يجمع المذنب مع الكافر في جهنّم و في الدرك الأسفل من النار ذنب كبير بلا إشكال، إلا أن يتوب و يصلح نفسه و يعتصم باللّه و يخلص دينه له، فيكون عندها مع المؤمنين، و سوف يؤتي اللّه المؤمنين أجرا عظيما، و اللّه هو الغفور الرحيم.

و ظاهر الآيات الكريمة ان النفاق بنفسه ذنب لا ان المنافق يذنب و يعصي اللّه تعالي باتخاذه الكفّار أولياء أو الخدعة مع اللّه تعالي.. بل انه بنفاقه يصلي جهنّم و

يجمع مع الكفار في الدرك الأسفل من النار لا بذنوبه التي يقترفها فحسب.

و لا ينافي ذلك ما ذكرناه من أن الذنوب النفسية (النوايا السيئة) لا تعدّ ذنبا فقهيّا ما لم تظهر بعمل، فان النفاق حالة تعرّض النفس لعلل ليس هذا محل ذكرها- كالشرك و الارتداد، فكما أن المشرك بشركه و المرتد بارتداده قد أذنبا فاستحقا النار لا بخصوص قول أو فعل أظهراه، فكذلك المنافق بنفاقه استحق أليم العذاب؛ و تلك الأمور ذنوب نفسية تقترفها نفس المذنب و لها مظهر.

[الرابع:] الافتراء علي اللّه تعالي

اشارة

الرابع: ثم بعد ذلك يأتي الافتراء علي اللّه تعالي و هو من أكبر الكبائر بمراتبه من ادعاء الرسالة و النبوّة بعد خاتم الأنبياء (صلوات اللّه و سلامه عليه و علي أهل بيته الطاهرين) أو مقام آخر ديني بغير حق من إمامة أو نيابة أو قضاء.

أو إيجاد بدعة في دين اللّه تعالي من إدخال ما ليس منه فيه، أو إخراج ما فيه عنه باسم الدين و الانتساب إليه، فان ذلك كلّه ذنب كبير يصلي مقترفه النار.

و من المعلوم ان الافتراء هو نسبة فعل أو قول الي شخص كذبا، فماهيّته غير

______________________________

(1)- اقتباس من آيات سورة (النساء [4] الآيات 138- 146).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 172

تفصيلا علي الإطلاق، فالأظلم منهما بل من كل ظالم هو المفتري علي اللّه، و ذنبه الموجب لعدم الفلاح هو حيثيّة الافتراء في مقام الإنكار و ردّ الآيات و البيّنات دون نفس الظلم حتي يستلزمه في صورة الجهل و العجز عن الدرك أو الترديد و ليس كذلك فانه يفلح اذا قدر و علم.

الثانية- قوله تعالي:

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيٰاتِهِ أُولٰئِكَ يَنٰالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتٰابِ حَتّٰي إِذٰا جٰاءَتْهُمْ رُسُلُنٰا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قٰالُوا

أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ قٰالُوا ضَلُّوا عَنّٰا وَ شَهِدُوا عَليٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كٰانُوا كٰافِرِينَ. (الأعراف [7] الآية 37)

الآية المباركة كسابقتها تحكم- بلسان تقرير الاستفهام- علي المفترين علي اللّه كذبا بأنهم أظلم من كل ظالم، و كذلك علي المكذّبين بآيات اللّه الذين يستكبرون عنها و هم أصحاب النار خالدين فيها، فانهم بعد استيفائهم ما كتب لهم من الحياة الدنيا و نعيمها و نيلهم نصيبهم منها، اذا جاءهم رسل اللّه ليتوفّوهم قالوا لهم: أين ما كنتم تدعون من دون اللّه مع أنه تعالي أرسل إليكم الرسل و أنزل معهم الآيات البيّنات؟ قالوا- في جوابهم-: قد ضلّوا عنّا. و اعترفوا بذنوبهم و شهدوا علي أنفسهم أنهم كانوا كافرين، فيقال لهم: ادخلوا في نار جهنم مع أمم قد خلت من قبلكم؛ و عندئذ كل أمّة تحمّل أوزارها علي الأخري و تقول: ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذابا ضعفا من النار، قال: لكل ضعف من غير فرق و لكن لا تعلمون.

و التقريب في الآية الكريمة أظهر في كون المفتري علي اللّه أظلم بعد ذكر المكذّب بآيات اللّه بقوله تعالي: وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْهٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ، ثم العطف بذكر الآية المبحوث عنها، و لا أفعل تفضيل علي الإطلاق إلا في مصداق، و دلالتها علي أن الافتراء علي اللّه ذنب كبير ظاهر.

الثالثة- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 173

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً أَوْ قٰالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ وَ مَنْ قٰالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لَوْ تَريٰ إِذِ الظّٰالِمُونَ فِي غَمَرٰاتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلٰائِكَةُ بٰاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذٰابَ الْهُونِ بِمٰا كُنْتُمْ

تَقُولُونَ عَلَي اللّٰهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آيٰاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ. (الأنعام [6] الآية 93)

الآية المباركة- كما تراها- في سياق آيات تقصّ حال المؤمنين بالرسل و طريقتهم، و المكذّبين إياهم الذين ما قدروا اللّه حق قدره و قالوا: ما نزّل اللّه علي بشر من شي ء، فأمر اللّه تعالي نبيه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أن يقول لهم ردّا علي نفيهم لدعوته و كتابه: لو كان الأمر كما تزعمون فمن أنزل الكتاب الذي جاء به موسي نورا و هدي للناس تجعلونه قراطيس تبدونها و هو عندكم كتاب ملموس تسمّونه بكتاب اللّه و تخفون كثيرا مما فيه من الآيات البيّنات التي تظهر الحق لكم في المقام، و تثبت لكم ما دعوتكم إليه، و قد علّمكم اللّه تعالي من هذا الكتاب ما لم تكونوا تعلمون أنتم و لا آباؤكم، أ لم يكن ذلك من عند اللّه تعالي، و هو الذي نزّل الفرقان علي عبده ليكون للعالمين نذيرا.

و لكن مع ذلك كلّه لا يؤمنون بك- يا رسول اللّه- و لا يستمعون الي قولك، فذرهم في خوضهم يلعبون، و هذا القرآن كتاب أنزلناه أليك مبارك و هو من عندنا مصدّق لما بين يديه من التوراة لتنذر به الناس و تبتدئ دعوتك من أم القري الذي هو مسجد التوحيد و مدحي الأرض، ثم تنشر شيئا فشيئا الي حولها منبسطا الي أقطار الأرض حتي يكون الدين كلّه للّه، و لئلا تكون فتنة، فانا أرسلناك كافّة للناس، و طبع دعوتك أن المؤمنين باللّه و اليوم الآخر الذين أدركوا وجود المبدأ و المعاد يؤمنون بها و بكتابك و رسالتك و هم علي خشوعهم و صلاتهم و عبادتهم يحافظون.

فانت نبيّنا و الكتاب كتابنا، و

من أظلم ممّن افتري علي اللّه كذبا و قال: ما أنزل اللّه علي بشر من شي ء، ردّا علي كتابك و رسالتك، أو قال: أوحي إليّ و لم يوح إليه شي ء فادّعي نبوّة بغير حق ردّا علي خاتميّتك، أو قال: سأنزل مثل ما أنزل اللّه في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 174

مقام الإنكار علي نزول القرآن الكريم، فهؤلاء هم الظالمون الذين لا أظلم منهم و لو تراهم في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم (يأمرونهم): اخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون علي اللّه غير الحق و كنتم عن آياته تستكبرون.

فالآية الكريمة بصراحتها تفيد ان الافتراء علي اللّه بالردّ علي آياته، و أنها من عند غيره، أو أن دعوي الرسالة التي من قبله هي بغير الحق، أو ادعاء إنزال الكتاب مثل ما أنزل اللّه كل واحد منه ذنب كبير يوجب عذاب الهون.

و عندنا: تدلّ الآية الكريمة بوضوح علي حرمة ادّعاء كل منصب إلهي بغير حق حتي النيابة و القضاء و الإجازة بالتصرّف في الأمور، فان ذلك كلّه افتراء علي اللّه و ذنب كبير، كما تدلّ علي أن الإفتاء بما لم يعلم المفتي و ليس له حجة كذلك محرّم و ينشأ منه وجوب التجنّب عن إظهار الرأي و الفتوي قبل تمام الحجة الشرعية أو العقلية، و له العمل رجاء أو الاحتياط في الرأي، أو العمل علي ما تراه في كلمات الأصحاب (رضوان اللّه عليهم).

و إنما بسطنا الكلام في المقام مع وضوح ما أفادت الآية الكريمة دفعا لما قد يتوهّم من أن الآية الكريمة واقعة مقام تأكيد نبوّة النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بملاحظة قوله تعالي: هٰذٰا كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ مُبٰارَكٌ، و ان المفتري علي

اللّه في دعوي الرسالة و الوحي نزول الكتاب أظلم من كل ظالم، فكيف بالنبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يدّعيه افتراء عليه تعالي، بل دعواه حق و صدق، فان ذلك الاحتمال و ان كان يسبق الي الذهن بداية، لكنّه مع ملاحظة الآيات السابقة و اللاحقة بهذا الشأن في سياق غير منقطع يرتفع الوهم و يظهر أن الآية الكريمة كما ذكرنا في مقام ردّ المخالفين المنكرين الذين يردّون علي النبيّ الكريم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بنفي رسالته مدّعين أن ذلك أمر عاديّ قائلين: إننا نتمكّن منه أيضا، و أنه يوحي إلينا، و أنه نزل علينا مثل ما نزل عليك، فردّت عليهم الآية الكريمة بقوله تعالي: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ …

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 175

كما ان احتمال تعيين مصداق خاص من الافتراء و ان حرف: «أو» في قوله تعالي: أَوْ قٰالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بمعني: «الواو»، و يكون المراد منه نسبة ايحاء اللّه تعالي إليه و لم يوح إليه.. ان ذلك ضعيف غاية الضعف لا سيما بعد عطف اللاحق بالواو في قوله تعالي: وَ مَنْ قٰالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ.

كما ان ذلك الاحتمال في الآيات الكريمة السابقة أيضا بجعل الذين كذّبوا بآيات اللّه مصداقا للموصول مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ بالتقريب ضعيف لا نعبأ به.

الرابعة- قوله تعالي:

.. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النّٰاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ. (الأنعام [6] الآية 144)

الآية الكريمة بسياقها في ذكر شطر من الحلال و الحرام تعدّ الافتراء علي اللّه في دينه ظلما، و ذلك قائل: هذا حلال و هذا حرام بغير علم بل

من قبل نفسه ليضلّ الناس عن طريق المحرّمات، فان ذلك هو الابتداع في الدين سواء كان إثباتا أو نفيا بأن يقول: ليس هذا من دين اللّه، بل كان من آداب العصور السابقة و تقاليد الناس كما يتوهّمه المبدعون في مثل الحجاب و بعض الحدود مع انها من ضروريات الاسلام، فان ذلك حرام و هو ظلم علي الناس.

و لنوضّح ذلك بشي ء يسير من ان الدين هو القيامة الأصلية؛ و ملاك تديّن الانسان به هو انتسابه الي اللّه تعالي؛ فانه هو الطريق الوحيد الذي يصحّ الاعتماد عليه و الاطمئنان به في مقام التحفّظ علي مصالح الحياة و التجنّب عن مضار الحياة الانسانية المرتبطة بالعالم، المؤثّر فيها الانسان، المتأثر بها، فانه جزء من نتائج العالم بل أشرف محصول للوجود، يرتبط بالعالم الأكبر خيراته و شروره، و لا يمكن العلم بكل صلاحه و فساده بدون العلم بالعالم بأجمعه، و ليس ذلك إلا لفاطر السماوات و الأرض و جاعل الانسان خليفة فيها.

و أما ما يدركه الانسان في الجملة مع تأثّره بشروط حياته الخاصة به و مختلف

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 176

تفكّراته و ان كان يمكنه ان يتجنب شيئا من المفاسد و يدرك شيئا من صلاحه إلا انه ليس علي كمال و قطع و اطمئنان؛ و لا سيما ان الانسان لم يكن يولد و يعيش ثم يموت و يفني فحسب، و انما هو بين ولادة و تكاثر و دوام في العالمين، و علم الانسان مهما ارتفع مستواه فلن يبلغ مستوي الكمال و القطع و الاطمئنان: وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّٰا قَلِيلًا، فكيف يليق به التشريع و يناسبه التقنين أو يمكنه ذلك؟

و من هنا تختلف نظرة الأنبياء و المؤمنين بهم عن

نظرة المصلحين من غير المؤمنين باللّه و بهم و باليوم الآخر؛ فان مصالح الانسان بين الميلاد و الموت غير التي بين الميلاد و الأبدية، و ربّ صلاح له في الأول فساد له في الثاني كما هو ظاهر.

و الحاصل: ان التصرّف في الدين نفيا و إثباتا بلا ضمان إلهي بعد عدم الاطمئنان به هو ظلم عقلا، و خيانة بالانسان و كيانه، و افتراء علي اللّه بالانتساب إليه تعالي، و هو ذنب كبير لا يغفر إلا بعد ارتداعه عن البدع و إرشاده الذين ضلّوا بضلالته- أعاذنا اللّه منه-.

الخامسة- قوله تعالي:

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيٰاتِهِ إِنَّهُ لٰا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ. (يونس [10] الآية 17)

الآية الكريمة في سياق بيان حال الذين لا يرجون لقاء اللّه، و الذين اذا تتلي عليهم آياته قالوا للرسول إنكارا و ردّا عليه: ائت بقرآن غير هذا أو بدّله، و هم الذين يعبدون من دون اللّه ما لا يضرّهم و لا ينفعهم من الأصنام و يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه، و أجابهم الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بأمر اللّه تعالي بقوله: مٰا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقٰاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلّٰا مٰا يُوحيٰ إِلَيَّ … و … قُلْ لَوْ شٰاءَ اللّٰهُ مٰا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لٰا أَدْرٰاكُمْ بِهِ، و اللّه تعالي بعثني نبيّا و أرسلني إليكم بآياته البيّنات، و من أظلم ممن افتري علي اللّه كذبا و قال: تلك أساطير الأولين، أو انها من عند غير اللّه أو كذّب بآياته، و إن لم يغيّر شيئا، فان ذلك كلّه ظلم و جرم و لا يفلح المجرمون.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 177

و من المعلوم ان الإطلاق في التفصيل لا

يصحّ إلا في واحد، فالمفتري أظلم من غيره ثم المكذّب و كل منهما مقترف الكبيرة.

السادسة- قوله تعالي:

قٰالُوا اتَّخَذَ اللّٰهُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ بِهٰذٰا أَ تَقُولُونَ عَلَي اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ* قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَي اللّٰهِ الْكَذِبَ لٰا يُفْلِحُونَ* مَتٰاعٌ فِي الدُّنْيٰا ثُمَّ إِلَيْنٰا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذٰابَ الشَّدِيدَ بِمٰا كٰانُوا يَكْفُرُونَ. (يونس [10] الآيات 68- 70)

تردّ الآية الكريمة علي الذين يقولون في اللّه و في دينه بغير حق من غير علم و لا سلطان و لا دليل من اتخاذه ولدا مع أنه له ما في السماوات و ما في الأرض و من فيهما و هو الغنيّ، و كذلك الذين يفترون عليه الكذب في دينه و شرائعه و تحكم عليهم الآية الكريمة بأن لهم عذابا شديدا بكفرهم بالحق و افترائهم عليه و أنهم لا يفلحون، فتدلّ صراحة علي حرمة الافتراء و ان مقترفه لا فلاح له و له عذاب شديد، و ليس ذلك إلا للكبيرة من الذنب.

السابعة- قوله تعالي:

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً أُولٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَليٰ رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الْأَشْهٰادُ هٰؤُلٰاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَليٰ رَبِّهِمْ أَلٰا لَعْنَةُ اللّٰهِ عَلَي الظّٰالِمِينَ* الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ يَبْغُونَهٰا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ. (هود [11] الآية 18- 19)

الآية الكريمة أيضا في سياق دعوة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و مناظراته مع مخالفيه في الآيات التي فصّلت من لدن حكيم خبير، فانهم كانوا يقولون: لَوْ لٰا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جٰاءَ مَعَهُ مَلَكٌ و أشباه ذلك، فضاق صدر الرسول من ذلك، و قد شرح اللّه تعالي صدره

بقوله: مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقيٰ و ما أرسلناك لتكون في حرج من عصيان الناس و كفرهم، و ما عليك إلا البلاغ فان اللّه يضلّ من يشاء و يهدي إليه من يشاء، و إنما أنت نذير و بشير و اللّه علي كل شي ء وكيل، فقل لهم جوابا عن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 178

افترائهم في آيات اللّه: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيٰاتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ فان لم يستجيبوا و لن يستجيبوا فقل لهم: أَنَّمٰا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّٰهِ وَ أَنْ لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ و الذين لا يؤمنون بك و بالهك بعد ذلك، و يريدون الحياة الدنيا و زينتها فليس لهم في الآخرة إلا النار، و حبط ما صنعوه في الدنيا، و باطل ما كانوا يعملون.

فان من كان علي بيّنة من ربه و يتلوه شاهد منه، فيشهد له تلو شهادة اللّه، و من قبله، يشهد له كتاب موسي، الذي كان إماما و رحمة، لا يكون هو و تابعه في مرية، و يعلم أنه الحق، و من كفر بعد ذلك من الأحزاب فالنار موعده و عندئذ فمن أظلم ممن افتري علي اللّه كذبا و قال: ليس الرسول من اللّه، و ان آياته من عنده، نعم، لا أظلم من هذا المفتري، و هم يعرضون علي ربهم يوم القيامة، و يقول الأشهاد الذين عرفتهم «1»: هؤلاء الذين كذبوا علي ربهم ألا لعنة اللّه علي الظالمين، الذين يصدّون عن سبيل اللّه و يبغونها عوجا و هم بالآخرة هم كافرون.

فالآية بصراحتها تدلّ علي حرمة الافتراء علي اللّه و القول فيه و في شئونه و شرائعه بغير علم و غير حق، و ان

المتصرّف في أحكامه كذلك، فهو الذي يصدّ عن سبيله و يبتغي الاعوجاج في طريقه، و هو ظالم له، عليه لعنة اللّه، و هو كافر بالآخرة، فتدلّ علي كبر الذنب- أعاذنا اللّه منه و من شرّ النفس.

الثامنة- قوله تعالي:

______________________________

(1)- الآية الكريمة التي اقتبسنا منها المفهوم هي: «أَ فَمَنْ كٰانَ عَليٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شٰاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتٰابُ مُوسيٰ إِمٰاماً وَ رَحْمَةً» (هود [11] الآية 17)، مما وردت في شأن أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) بل هي أفضل آية وردت في شأنه (عليه السّلام) كما يشير الي ذلك قبل الرواية، فان الشاهد الذي يصحّ أن يطلق عليه أنه منه أي من الرسول علي الإطلاق و الحقيقة دون التنزيل هو عليّ (عليه السّلام) فانه من أهل بيته و الشاهد الذي يتلوه أي يتلو الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) إن عاد الضمير إليه، أو يتلو القرآن إن عاد الي البيّنة، فهو لا ينطبق إلا عليه (عليه السّلام) فانه من أهل بيته و يتلو الرسول كما تدلّ عليه آية المباهلة و كلمة: «أنفسنا» أو القرآن كما يدلّ عليه حديث الثقلين، و في الاحتجاج: سئل عن أفضل منقبة له؟ فتلا هذه الآية، و قال: أنا الشاهد من رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، كما حكاه الصافي أيضا، و للتفصيل راجع كتاب: (الولاية في القرآن).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 179

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْويً لِلْكٰافِرِينَ. (العنكبوت [29] الآية 68)

الآية الكريمة في مقام البحث عن الحق و إثبات بارئ العالمين و ربّها في كل آن، مع ردّ الذين يؤمنون بالباطل

من الشرك و الوثنية، و بنعمة اللّه يكفرون، من الحق و التوحيد و الدعوة إليهما، و الآيات لهما، فمن أظلم ممن افتري علي اللّه كذبا بانتساب الخلق الي غيره أو تصوير شريك له في نظام الكون، و كذلك من كذّب بالحقّ بعد ما جاءه و عرفه، أ ليس في جهنّم مثوي للكافرين الذين يسترون الحق و يكفرون به، نعم لا مثوي لهم إلا النار.

و من المعلوم أن الكفر في النفس من دون إظهار لا يعدّ ذنبا- فقهيا-، و المظهر في المقام الافتراء أو التكذيب.

التاسعة- قوله تعالي:

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَي اللّٰهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جٰاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْويً لِلْكٰافِرِينَ. (الزمر [39] الآية 32)

الآية المباركة و إن كانت تحكي حال الكفّار و المكذّبين و أنّ مثواهم النار، و تبيّن مقام المؤمنين و المتقين و إنّ جزاءهم ما يشاءون عند ربّهم من جنّات و أنهار و نعيم، و ان الآية الكريمة لم تذكر شيئا عن الافتراء، إلا انها تبيّن ان الكذب علي اللّه تعالي هو افتراء عليه، و تكذيب الصدق هو تكذيب الحق كما مرّ في الآية المباركة السابقة، فان الحق هو تعالي و آياته البيّنات، فتدلّ الآية الكريمة إذن- كسابقتها- علي حرمة الافتراء علي اللّه و القول فيه و في شئونه و دينه بغير علم كما تدلّ علي أنه ذنب كبير.

العاشرة- قوله تعالي:

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّٰاكٍ أَثِيمٍ* يَسْمَعُ آيٰاتِ اللّٰهِ تُتْليٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهٰا فَبَشِّرْهُ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ. (الجاثية [45] الآية 7- 8)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 180

تهدّد الآية الكريمة كل منحرف عن الحق و لا سيما الأفّاك الأثيم الذي يسمع آيات اللّه تتلي عليه ثم يستكبر عنها كأن لم يسمعها

و يصرّ علي استكباره.. تهدده بالعذاب الأليم. و من المعلوم ان الافتراء علي اللّه تعالي و علي دينه و شرائعه هو من أجلي مصاديق الافك و الافتراء و الانحراف.

فتدلّ الآية الكريمة علي حرمة ادّعاء كل منصب إلهيّ أو التصرّف في الأمور الشرعية بغير الحق، و في دين اللّه بأيّ وجه كان أيضا، فان ذلك كلّه افتراء علي اللّه تعالي و انحراف عن الحق و إنكار لآيات اللّه و استكبار عنها و صدّ عن سبيله و منع مساجده، و قد قال تعالي: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسٰاجِدَ اللّٰهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعيٰ فِي خَرٰابِهٰا فان تحريف دين اللّه عن وجهه سعي في خراب المسجد و منع عن سبيله و هو سبيل اللّه، و المسجد هو المكان الذي يعبد اللّه تعالي فيه و تقام به شرائعه، حتي يقوم به دين اللّه علي صلبه، لا ما يتظاهر فيه بأمور و أسس في تحكيم أساس الظلمة و حكّام الجور، و الذي أحقّ أن تقام فيه لمسجد أسس علي التقوي «1».

ان الانحراف و الإثم بلا استكبار بل من غلبة النفس لا تشمله الآية الكريمة، و اللّه غفور رحيم.

الحادية عشرة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقُولُوا لِمٰا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هٰذٰا حَلٰالٌ وَ هٰذٰا حَرٰامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَي

______________________________

(1)- و قد كنّا نعيش في برهة من الزمان يتظاهر بها بالاسلام و الدين الحنيف من ناحية الحكّام الظلمة مثل طبع كتاب اللّه العزيز و كتب الزيارات و بعض المقالات و غيرها.. و يقدمون من جهة اخري علي هدم اصول الاسلام و آيات القرآن و منعهم عن نشر الدين بسجن المؤمنين و نفيهم و غيرهما.. نعوذ باللّه من شرّهم و شرّ الزمان و غيره

علي الاسلام و القرآن و المسلمين و الحوزات العلمية …

و نحن الآن مشغولون- و الحمد للّه- في استنساخ و تنظيم الدستور الاسلامي للجمهورية الاسلامية الايرانية بعد نجاحها و انتصارها علي النظام الطاغوتي اللاإسلامي، و لقد أنعم اللّه تعالي عليّ بأن أدرك هذه المهمّة و تعيين المجلس الاسلامي و أعضائه كذلك، و ذلك بإطاعة أمر زعيم الثورة الاسلامية الإمام الخميني (حفظه اللّه و رعاه)، فأنا الآن مشغول بطهران كنائب عن أهالي مدينة قم المقدسة في مجلس الشوري الاسلامي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 181

اللّٰهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَي اللّٰهِ الْكَذِبَ لٰا يُفْلِحُونَ* مَتٰاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ. (النحل [16] الآية 116- 117)

تنهي الآية الشريفة بعد ذكر شطر من حلال اللّه و حرامه عن القول بأن: هذا حلال و هذا حرام- كذبا و افتراء علي اللّه بغير علم- فان الذين يفترون علي اللّه الكذب لا يفلحون، و ما ينالون نيلة أو يتوهّمون بعملهم هذا انه من زخرف الدنيا فهو متاع قليل و لهم في الآخرة عذاب أليم.

فالتصرّف في دين اللّه تعالي و الحكم بأن هذا حلال و هذا حرام من غير حجّة منهيّ عنه و محرّم، ثم انه افتراء، و لا فلاح للمفتري علي اللّه تعالي، فانه خيانة للّه و لرسوله، و قد قال تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَخُونُوا اللّٰهَ وَ الرَّسُولَ … (الأنفال [8] الآية 28)، و أنه قول بغير علم، و قد قال تعالي: وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَي اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ (الأعراف [7] الآية 33)، و أنه افتراء عليه، و قد قال تعالي: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرٰاماً وَ حَلٰالًا قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ

أَمْ عَلَي اللّٰهِ تَفْتَرُونَ (يونس [10] الآية 59).

الثانية عشرة- قوله تعالي:

.. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً. (الكهف [18] الآية 15)

الآية المباركة تقصّ قصّة أصحاب الكهف و قومهم فتقول: إنهم قاموا و قالوا:

رَبُّنٰا رَبُّ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلٰهاً لَقَدْ قُلْنٰا إِذاً شَطَطاً، هٰؤُلٰاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لٰا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطٰانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً (الآيات من نفس السورة- الكهف-)، فكما ان الطعن في وحدانيّته تعالي بغير سلطان بيّن، افتراء و تسلّط، و القول بإله دونه قول بغير علم، فكذلك الأمر في ما يرتبط بدين اللّه و شريعته، فانه افتراء اذا كان بغير علم.

تنبيه:

إنك تعلم أن الآيات الكريمة التي أشرنا إليها في الباب، كثيرا ما كانت أصرحها

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 182

في المطلوب، و في أكثرها عطف التكذيب علي الافتراء بحيث قد يتوهّم أنه بيان للمصداق، مع ما عرفت من تعددها ماهيّة حسب ضرورة وجود النسبة في الافتراء دون الكذب مع انه خلاف ظاهر العطف ب «أو»، و إطلاق أفعل التفضيل ينطبق علي المفتري أولا ثم علي المكذّب، و يشير الي ما ذكرنا قوله تعالي: … فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ صَدَفَ عَنْهٰا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيٰاتِنٰا سُوءَ الْعَذٰابِ بِمٰا كٰانُوا يَصْدِفُونَ (الأنعام [6] الآية 157)، و لم يذكر عن الافتراء و ما في معناه شي ء.

و الحاصل: إن ما تلوناه عليك من الآيات البيّنات يفيد حرمة الافتراء علي اللّه تعالي و أسمائه و صفاته و دينه و شريعته «1»، كما تدلّ علي أن ذلك ذنب كبير لا يفلح مقترفه.

و أما الافتراء علي غير اللّه تعالي من الناس في ما لم

يرجع الي اللّه تعالي و رسوله بوجه من الوجوه فلا تدلّ عليه تلك الآيات، و ان كان محرّما بأدلّة تذكر في محلّها، فلا يتوهّم أنها تعطي حرمة الافتراء علي الإطلاق و منه الافتراء علي اللّه، فانها- كما تراها- أضافت الافتراء الي اللّه تعالي علي أساس إضلال الناس و الصدّ عن سبيل اللّه و ابتغاء الاعوجاج فيه، فان مفسدة ذلك علي حدّ يستقلّ العقل في الحكم فيه و بيان الحرمة، و تمام الكلام في محلّه.

[الخامس:] تولّي الكفّار

اشارة

الخامس: ثم بعد الافتراء علي اللّه تعالي الذي هو من أكبر الكبائر يأتي تولّي الكفّار و اتخاذهم بطانة، بجعل البعيد الأجنبي و من هو من غير المسلمين- سواء كان من أهل الكتاب أو من غيرهم- قريبا و بطانة «2»، حتي يتمكّن من المعيشة بين

______________________________

(1)- «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّٰهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلًا* أُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ عَذٰاباً مُهِيناً».

(النساء [4] الآية 150- 151)

(2)- تستعار البطانة لمن تخصّه بالاطلاع علي باطن أمرك. (المفردات).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 183

المسلمين علي وجه يطّلع به علي أسرار مجتمعهم و عوامل نجاحهم و هو لا يألوهم خبالا، يودّ عناء المؤمنين و بلاءهم، و يفرح أن تصيبهم سيّئة، و الكفّار قد بدت البغضاء من أفواههم و خلال كلماتهم و ما تخفي صدورهم أكبر، يريدون أن يثقفوا و يدركوا المؤمنين ليبسطوا إليهم أيديهم و ألسنتهم بالسوء ودّوا لو يكفرون.

و من المعلوم ان ذلك أشدّ غارة تشنّ علي المسلمين، فانه تسليط للكفّار علي الاسلام و كيان المسلمين و جعل سبيل لهم عليهم، و طبع ذلك ينادي بالحرمة

تحفّظا علي أساس الاسلام، و مراقبة أصوله و عروق الحياة الطيبة للمسلمين.

و في الباب آيات، هي:

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا بِطٰانَةً مِنْ دُونِكُمْ لٰا يَأْلُونَكُمْ خَبٰالًا وَدُّوا مٰا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضٰاءُ مِنْ أَفْوٰاهِهِمْ وَ مٰا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنّٰا لَكُمُ الْآيٰاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. (آل عمران [3] الآية 118)

تخاطب الآية الكريمة المؤمنين و تنهاهم عن اتخاذ كل من هو من غيرهم و دونهم بطانة يطّلع علي أسرارهم، و تشير الي سرّ ذلك و الفساد المترتّب عليه، بأنهم لا يألونكم خبالا و ودّوا عناءكم و بلاءكم، و أنتم تعلمون ما بدا من البغضاء من كلماتهم من المؤمنين، و ما تخفي صدورهم أكبر و أكثر، فهم أعداء لا بدّ من التحرّز منهم و دفع شرّهم. و من المعلوم أن دلالة النهي مع التعليل علي الحرمة أصرح من النهي لوحده.

الثانية- قوله تعالي:

بَشِّرِ الْمُنٰافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً* الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّٰهِ جَمِيعاً.

(النساء [4] الآية 138- 139)

تنذر الآية المباركة المنافقين الذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 184

بأن لهم عذابا أليما من النار، و توبّخهم بما يبتغون من أوليائهم من: ثروة و شهرة و سلطة و عزّة، من ان العزّة للّه و لرسوله و للمؤمنين، و أنّ بيد اللّه تعالي كل ذلك، فانه مالك الملك، يعطي الملك من يشاء و ينزع الملك ممّن يشاء، و يعزّ من يشاء، و يذلّ من يشاء بيده الخير و هو علي كل شي ء قدير.

و المؤمن باللّه و باليوم الآخر- بما انه مؤمن- لا يوالي الكافر المنكر للّه و اليوم الآخر بوجه من الوجوه، فانه

في خطأ و غلط، و كيف يبتغي المؤمن العزّة من الكافرين و هم الذين يستهزءون بآيات اللّه اذا سمعوها، و لذلك نهي اللّه تعالي المؤمنين عن مجالستهم، فأمرهم ان لا يقعدوا معهم و لا يؤانسوهم حتي يخوضوا في حديث غيره، فان المجالسة مؤثّرة، و أنتم بمجالستكم هذه و مخالطتكم لهم تكونون معهم و منهم و مثلهم، و اللّٰهَ جٰامِعُ الْمُنٰافِقِينَ وَ الْكٰافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً.

نعم، لا بأس بمخالطتهم في غير شئون الدين و بلا تولّ لهم إرشادا في الدين أو استخداما في الدنيا- كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه-.

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّٰهِ عَلَيْكُمْ سُلْطٰاناً مُبِيناً* إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّٰارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. (النساء [4] الآية 144- 145)

الآية الكريمة تخاطب المؤمنين و تنهاهم عن اتخاذ الكفّار أولياء من دون المؤمنين، مشيرة الي أن ذلك نفاق منهم و ذنب كبير لا عذر فيه، و للّه عليهم فيه الحجة و السلطان، فيؤاخذهم اللّه به، و لا حجة لهم في ذلك يوم القيامة. فالذين يتخذونهم أولياء نفاقا و خدعة، في الدرك الأسفل من النار، فان ذلك خيانة للّه و رسوله و المؤمنين، و مكر و خديعة علي الاسلام و المسلمين، و اللّه تعالي هو خادعهم و هو خير الماكرين، و لن تجد لهم نصيرا، إلّا الذين تابوا و أصلحوا و اعتصموا باللّه و أخلصوا للّه دينهم (أي تركوا المشركين و الكفّار) فأولئك مع

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 185

المؤمنين و سوف يؤت اللّه المؤمنين أجرا عظيما.

فلا كلام في دلالة الآية الكريمة علي أن تولّي الكفّار ذنب كبير، كما لا كلام في

دلالتها علي قبول توبة المنافقين بعد اعتصامهم باللّه تعالي و إخلاصهم له، كما سيأتي بحثه إن شاء اللّه في بحث التوبة في نهاية الكتاب.

الرابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا آبٰاءَكُمْ وَ إِخْوٰانَكُمْ أَوْلِيٰاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَي الْإِيمٰانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ. (التوبة [9] الآية 23)

الآية المباركة في سياق آيات الجهاد و بيان فضله و فضل المجاهدين بأموالهم و أنفسهم بأنّ لهم درجة عند اللّه و أولئك هو الفائزون، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوٰانٍ وَ جَنّٰاتٍ لَهُمْ فِيهٰا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً إِنَّ اللّٰهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ، و الآية في مقام تشنيع الفاسقين أيضا، و تحديد الذين يتظاهرون بالايمان بأنهم ما آمنت قلوبهم طرفة عين و هم مع الكفّار و علي أهوائهم من الدنيا و حطامها، فتخاطبهم الآية الكريمة قائلة: إِنْ كٰانَ آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ وَ إِخْوٰانُكُمْ وَ أَزْوٰاجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوٰالٌ اقْتَرَفْتُمُوهٰا وَ تِجٰارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسٰادَهٰا وَ مَسٰاكِنُ تَرْضَوْنَهٰا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهٰادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّٰي يَأْتِيَ اللّٰهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ. (التوبة [9] الآية 24)

ثم تنهاهم عن اتخاذ الوليّ ممن أحبّ الكفر علي الايمان و لو كان أقرب الأقرباء كآبائهم و إخوانهم، و تحكم علي من فعل ذلك بأنه من الظالمين.

و كأن الآيات الكريمة تقول ان الايمان ليس ايمانا حقا ما لم يبلغ الحدّ الأوفي عند المؤمن بأن يكون حاكما علي كل علاقاته العائلية و القومية و حتي الاجتماعية و الاقتصادية، و إنما هو درجة و تظاهر بكمال، و اللّه لا يهدي القوم الفاسقين.

و من المعلوم ان تولّي الكفّار علي أساس الحب بإحدي الأمور المذكورة يورث سلطة

الكفّار و المنافقين علي الاسلام و المسلمين بعد اطلاعهم علي الأسرار

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 186

و الرموز التي هي في عروق حياتهم الفردية و الاجتماعية، و ما يورث من ذلك لا يساعد بقاء الايمان باللّه و اليوم الآخر أبدا.

كما ان من المعلوم أن النهي معللا يوجب دوران الحكم مدار العلّة لانشقاق الكفر عن الايمان و هو ظاهر، و العدوّ عدوّ كيف ما كان.

الخامسة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ ثُمَّ لٰا تُنْصَرُونَ. (هود [11] الآية 113)

الآية المباركة بعد الأمر بالاستقامة في الدين و تحمّل المشاكل تنهي عن الركون الي الذين ظلموا معللة بأن ذلك يوجب النار، و يوجب أن يكون الراكن إليهم منهم، و من أظلم ممن كفر بآيات اللّه و كذّب بها؟! و لا وليّ للمؤمن إلا اللّه تعالي، فهو وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الي النور و ما لكم من دون اللّه أولياء، و تولية الكافر و تمكينه من التصرّف في امور المسلمين من أشنع مصاديق الركون، و المفسدة الأصلية فيه أكثر كما هو ظاهر، فتدلّ الآية الكريمة علي حرمة تولّي الكفّار بوجه أصرح.

السادسة- قوله تعالي:

لٰا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوٰادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كٰانُوا آبٰاءَهُمْ أَوْ أَبْنٰاءَهُمْ أَوْ إِخْوٰانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمٰانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولٰئِكَ حِزْبُ اللّٰهِ أَلٰا إِنَّ حِزْبَ اللّٰهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

(المجادلة [58] الآية 22)

تخبر الآية الكريمة عن ديدن المؤمنين باللّه و باليوم الآخر و طبيعتهم، و تصفهم بأن لا تجد

أحدا منهم يوادّ من حادّ اللّه و رسوله و لو كان أقرب أقربائه من أب أو ابن أو عشيرة، فان الايمان باللّه تعالي و اليوم الآخر و حبّ اللّه تعالي لا يجتمع معه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 187

حبّ من يخالفه و يعانده، و المؤمن اذا كمل ايمانه الي حدّ فهو لا يوادّ به من حادّ اللّه و رسوله بل انه يعانده و لو كان أباه، لأنّ الايمان قد ترسّخ في قلبه، و اطمأن بحبّ الرحمن، عند ذلك يكون مؤيّدا بروح قدسيّة مباركة و سيدخل الجنّات مرضيّا عنه و هو راض، و أولئك هم المفلحون.

و عندنا: إن هذا التعبير أصرح و أبلغ في بيان حرمة تولّي الكفّار، فان حقيقة المعني: إن المؤمن حقّا لا بدّ و أن يكون كذلك، و كلّما بعد عن الايمان بالنسبة، و اذا كان الودّ مع الذين يحادّون اللّه لا يتفق مع الايمان و لا ينسجم معه، فكيف الولاء لهم الذي هو من أعلي مراتب الود. و أما الذين لم يحادّوا اللّه و رسوله من غير المؤمنين فمودتهم- و هي دون حدّ الولاء- لا بأس بها علي أن تكون وفق اصول إسلامية عامة و إنسانية عقلائية، و أما أن يكون علي حدّ الولاء فلا يجوز أيضا لتحقّق المحادّة منهم للّه- في الجملة- فانّ من لم يؤمن باللّه سبحانه فقد حادّه بطبعه، و الكفر ملّة واحدة، و العدوّ عدوّ يتحرّز منه كائنا من كان.

السابعة- قوله تعالي: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِمٰا جٰاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيّٰاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهٰاداً فِي

سَبِيلِي وَ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِمٰا أَخْفَيْتُمْ وَ مٰا أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوٰاءَ السَّبِيلِ* إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدٰاءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ. (الممتحنة [60] الآية 1- 2)

الآيات المباركة تخاطب المؤمنين و تنهاهم صريحا عن تولّي أعداء اللّه تعالي و أعداء المؤمنين، الذين هم كفّار بما جاء به النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من الحق، و الكفّار طبعهم إظهار الولاء حتي يطّلعوا علي أسرار المؤمنين فيتمكّنوا منهم، فيثقفوهم و يبسطوا إليهم أيديهم و ألسنتهم بالسوء في سبيل السلطة و الاستعلاء، فيبلّغون

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 189

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمٰا يَئِسَ الْكُفّٰارُ مِنْ أَصْحٰابِ الْقُبُورِ. (الممتحنة [60] الآية 13)

الآية الكريمة تنهي صريحا عن تولّي المغضوب عليهم الذين يئسوا من الآخرة يأس الكفّار من أهل القبور، فان الذين لا يؤمنون بالآخرة و لا يظنون أنهم مبعوثون، لا يبالون بما يقولون و لا يعتنون بما يفعلون في سبيل مبتغياتهم الشيطانية و النفسانية، و بهذا يخرجون عن الصراط المستقيم، و قد غضب اللّه عليهم.

فاذا اتخذوا أولياء، يسعون في الأرض فسادا، و يبتغون للدين زوالا، سواء كانوا من المشركين أو من المنافقين.

و كل ما مضي فهي آيات تنهي عن تولّي غير المؤمن بمعناه الخاص، كائنا من كان، من أهل الكتاب و غيرهم، و هناك آيات تنهي عن تولّي خصوص أهل الكتاب و اتخاذهم أولياء و بطانة، من باب ذكر الخاص بعد العام، علي ملاك التأكيد، و دفعا لتوهّم كفاية الاشتراك في بعض الأصول كالمبدإ و المعاد لجواز التولّي بتقريب أنهم

حيث يعتقدون باللّه تعالي و اليوم الآخر فهم منّا و ليسوا من غيرنا حتي يحرم تولّيهم، و قد قال تعالي فيهم: يٰا أَهْلَ الْكِتٰابِ تَعٰالَوْا إِليٰ كَلِمَةٍ سَوٰاءٍ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمْ أَلّٰا نَعْبُدَ إِلَّا اللّٰهَ. (آل عمران [3] الآية 64)

فانهم و ان كانوا كذلك إلا أنه وَدَّتْ طٰائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ (آل عمران [3] الآية 69)، و لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّٰاسِ عَدٰاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ (المائدة [5] الآية 82)، و الأساس هو لزوم التحرّز عن إضرار العدوّ.

و في الباب آيات، هي:

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصٰاريٰ أَوْلِيٰاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ* فَتَرَي الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسٰارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشيٰ أَنْ تُصِيبَنٰا دٰائِرَةٌ فَعَسَي اللّٰهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 190

عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَليٰ مٰا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نٰادِمِينَ. (المائدة [5] الآية 51- 52)

الآيات المباركة تنهي المؤمنين عن اتخاذ اليهود و النصاري أولياء، ثم تبيّن شدّة الحرمة الي حدّ تحكم علي من يتولّاهم بأنه منهم، و يخرج بذلك عن صفّ المسلمين، و يصبح في مجتمع أهل الخلاف. و من فعل ذلك فقد ظلم نفسه، و اللّه لا يهدي القوم الظالمين. فان الذين في قلوبهم مرض الوحشة و الاضطراب و لم تطمئن قلوبهم لذكر اللّه تعالي و عناياته، يسارعون فيهم و يتولّونهم خشية أن تصيبهم دائرة توهّما منهم أن أهل الكتاب يتمكّنون من دفع البلاء عنهم و دفع الدائرة أيضا، فيتركون الجهاد في سبيل اللّه، و عسي اللّه أن يأتي بالفتح بأيدي المؤمنين المجاهدين، أو بأمر من عنده فيصبح الذين تركوا الجهاد علي ما أسرّوا

في أنفسهم نادمين، و لكن لا ينفعهم الندم بعد ما فعلوه و أسرّوه في أنفسهم نفاقا فأصبحوا خاسرين، و سوف يأتي اللّه بقوم يحبهم و يحبونه يجاهدون في سبيله و لا يخافون لومة لائم و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و اللّه واسع عليم، و النهي بهذا اللسان مع التعليل يفيد الحرمة المؤكّدة- كما تري-.

الثانية- قوله تعالي:

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّٰاسِ عَدٰاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قٰالُوا إِنّٰا نَصٰاريٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبٰاناً وَ أَنَّهُمْ لٰا يَسْتَكْبِرُونَ. (المائدة [5] الآية 82)

و لقد أخبر اللّه تعالي رسوله بأمر واقع بين الذين لم يؤمنوا به من الأقوام، و بين المؤمنين، ليكون علي بصيرة في مكافحتهم، حيث انك لتجد أشدّ الناس عداوة و أكثرهم خصومة للمؤمنين اليهود و المشركين، و الكفر و إن كان ملّة واحدة لكن الذين قالوا: إنّا نصاري، بما أن منهم قسّيسين و منهم رهبانا لتجدنّهم أقرب مودّة للمؤمنين و ذلك لا بمعني جواز تولّيهم و اتخاذهم بطانة، بل هم أقرب مودّة قبال شدّة عداوة اليهود و الكفّار و المشركين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 191

و يشهد لذلك ما فعله اليهود فانهم قد ضلّوا من قبل و أضلّوا عن سواء السبيل و لعنوا علي لسان داود و عيسي بن مريم (عليهما السّلام) ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون، و كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، و تري كثيرا منهم (يا رسول اللّه) حتي في عصرك- يتولّون الذين كفروا و يراودونهم فيجعلونهم بطانة أمورهم في مخالفتهم إيّاك، و لو كانوا يؤمنون باللّه و النبيّ و ما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء، و لكن كثيرا منهم فاسقون، فاليهود

بما أنهم كانوا كذلك من قبل و يكونون كذلك من بعد أيضا، فبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط اللّه عليهم و هم في العذاب خالدون.

فاليهود إذا كانوا شديدي العداوة للمؤمنين، و قد قال تعالي: لٰا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ، فلا يجوز تولّيهم علي ملاك ما، و أما النصاري و ان لم يكونوا مثل اليهود و لكنّهم لم و لن يكونوا علي حدّ يتّخذهم المؤمنون أولياء، فانهم أيضا من دون المؤمنين، و قال تعالي: لٰا تَتَّخِذُوا بِطٰانَةً مِنْ دُونِكُمْ فان غير المؤمنين بعضهم أولياء بعض، كما ان المؤمنين بعضهم أولياء بعض، و لا ولاية علي المؤمن من غيره.

حرمة تولّي أهل الكتاب

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفّٰارَ أَوْلِيٰاءَ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.

(المائدة [5] الآية 57)

لقد خاطب اللّه المؤمنين و نهاهم عن تولّي الذين يستهزءون بالمؤمنين و يتخذونهم دينهم لعبا و هزوا، الذين هم أهل الكتاب و الكفّار، نهاهم عن اتخاذ الذين اذا نودي الي الصلاة- التي هي عمود الدين و ركنه الوثيق- يتخذونها هزوا و لعبا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 192

أولياء، فانهم قوم لا يعقلون «1».

ثم إن الآيات الكريمة تذكر كثيرا من مساوئ أهل الكتاب من مسارعتهم في الإثم و العدوان و أكلهم السحت و قولهم: يَدُ اللّٰهِ مَغْلُولَةٌ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا و قد جعل اللّه منهم القردة و الخنازير، و أولئك هم شرّ مكانا و أضلّ سبيلا.

و الذين هذه شيمتهم كيف يتّخذون أولياء؟ فيطّلعون علي الأسرار و يعملون في المسلمين بفسقهم ليطفئوا نور اللّه بعملهم هذا و يحكموا علي شرائع اللّه بأهوائهم، و اللّه أعلم

بما يعملون.

و من المعلوم أن النهي في مثل السياق و بيان خصوصيات أهل الكتاب و صفاتهم أصرح في الحرمة و لزوم التحرّز و الاجتناب عنهم كما هو ظاهر.

و ما تلوناه من الآيات البيّنات الي هنا كانت تدلّ علي حرمة تولّي الكفّار و أهل الكتاب و المشركين الذين هم غير المؤمنين بحيث يتمكّنون من الحياة و المعيشة بين المسلمين مختلطين معهم كاختلاط أنفسهم بعضهم مع بعض- علي تفصيل وضّح من قبل- مما يخلفه فساد مترتّب، و مكر علي المسلمين و مؤامرة عليهم، و ينتهي ذلك الي الذلّ و الخسران في الدنيا و عذاب النار في الآخرة.

و محصّل ذلك كلّه ينتهي الي توصية المؤمنين باللّه و رسوله، و لا سيما الذين بيدهم مجاري الأمور و العلماء و الحكّام بحفظ الاستقلال و الاستقرار و الشخصيّة الاسلامية، فانهم هم المسئولون أولا عن شئون الاسلام و المسلمين، و عن تركهم الاعتراض علي الحكّام الفجرة و عن سكوتهم قبال أعمال الجبابرة، و عليهم مراقبة ثغور الاسلام و بلاد المسلمين لئلا ينفذ العدوّ الخادع المتظاهر بالخير و الصلاح في ثقافتهم و صناعتهم، و بالجملة في كليّاتهم و في معاهدهم و بيوتهم و مزارعهم و حتي في المؤتمرات و المنظّمات الاسلامية العائدة لهم.

______________________________

(1)- و لقد مضي شي ء من الكلام فيه في كتاب الصلاة عن الكلام في النداء الي الصلاة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 194

الماكرة بتسليط أهل الكتاب الذين قالوا: يَدُ اللّٰهِ مَغْلُولَةٌ، غلّت أيديهم و هم الذين أشدّ الناس عداوة للمسلمين و الذين منهم قسّيسين و رهبان من غربيين و شرقيين صان اللّه تعالي الاسلام و المسلمين و بلادهم من شرور الكفّار و أهل الكتاب.

فصل في موارد جواز توظيف العدوّ و فيه آيات:
اشارة

الأولي- قوله تعالي:

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنٰافِقُونَ وَ الَّذِينَ

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لٰا يُجٰاوِرُونَكَ فِيهٰا إِلّٰا قَلِيلًا* مَلْعُونِينَ أَيْنَمٰا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا. (الأحزاب [33] الآية 60- 61)

الآية الكريمة- كما تراها- تحكم علي المنافقين الذين لم ينتهوا عمّا نهوا عنه و استمرّوا علي ما كانوا عليه بأنهم يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ و المؤمنين و المؤمنات بمثل القذف و غيره بغير ما اكتسبوا و السعي ضد الاسلام و المسلمين بكل طاقاتهم لما في قلوبهم من مرض، فهم الملعونون المبعدون يجب قتلهم أينما ثقفوا.

و حيث ان معاونة الأعداء يعتبر إيذاء للّه و لرسوله و للمؤمنين، بل هو أشدّ إيذاء من غيره، فلا وجه لاختصاص ذلك بالقذف، فإنّ حدّ القاذف لا يكون قتلا، قال تعالي: وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ … فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً مضافا الي ان السياق لا يساعد الانحصار و ان كان إيذاء المؤمن و لو بالقذف يؤذي اللّه تعالي و رسوله أيضا.

نعم هناك قسم من المنافقين لا يجوز قتلهم و لا يحكم بكفرهم و إن كانوا من أصحاب الجحيم أو أن اللّه تعالي قد أوعدهم بالنار، و سيأتي الكلام عنهم، و ان الذي لا يجوز تولّيه و هو بحكم الكفّار غير الذي لم يحكم بكفره، و يجوز استخدامه و الانتفاع من قوّته من غير تولّيه.

الثانية- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 196

و مراودتهم مع الكفّار و تعاونهم علي الإثم و العدوان فخذوهم و اقتلوهم حيث وجدتموهم من غير ملاحظة في كونهم في حلّ أو حرم، و لا تتخذوا حينئذ منهم وليّا و لا نصيرا.

نعم انهم إن استجاروا بقوم كان بينهم و بينكم ميثاق و لجئوا إليهم فانهم بوصولهم إليهم يترك قتالهم، و ذروهم في خوضهم يلعبون، و

لا جواز في تولّيهم و اتخاذهم بطانة، فان الاستثناء راجع الي الأمر بالقتل لا النهي عن اتخاذهم وليّا، فانه لا يعقل تولّي العدوّ اللاجئ الي عدوّ آخر هو في أمن مؤقتا حسب الميثاق مع المؤمنين.

و احتمال رجوعه الي التولّي و التناصر معا حتي يجوز اتخاذهم نصيرا في الكفاح مع سائر الأعداء ضعيف للغاية و ان كان يجوز ذلك بدليل آخر ذكر في محلّه.

و الحاصل: إن المنافقين الذين يراودون الكفّار و يعاونونهم علي الاسلام حكمهم حكم الكفّار، لا يجوز تولّيهم بل يجب مقاتلتهم أيّا كانوا و في أيّ مقام و بأيّ منصب، فلا بدّ من أخذهم و قتالهم حتي يهاجروا في سبيل اللّه.

و حيث ان هذا الحكم لا يكون في حق كل منافق، لذا لا بدّ أن نذكر في المقام ملاك الكفر و الاسلام، و نبيّن أقسام النفاق و حكمها و إن كان يأتي أصل الحكم في الآيات الأخري أيضا، فنقول ملخّصا:

لا إشكال في أن الأساس في الاسلام هو الايمان بالمبدإ و المعاد، أي الايمان باللّه و باليوم الآخر، و بأصل الرسالة التي هي الوساطة بين الخالق و المخلوق، أي النبوّة و أن محمدا (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) خاتم النبيين «1»، فكل من آمن و اعترف بهذه الأصول الثلاثة فهو مسلم يمتاز عن الكافر و المشرك النجس، قال تعالي: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، و لا يجوز قتل المسلم، قال تعالي: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ..

______________________________

(1)- قال تعالي: «مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اللّٰهِ وَ خٰاتَمَ النَّبِيِّينَ». (الأحزاب [23] الآية 40)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 197

، و لا بأس بتولّيه و معاشرته و مودته، فان المؤمنين بعضهم أولياء

بعض، و له ما لكل مسلم من الأحكام الشاملة للمسلمين في حياتهم و معاشهم في المعاملات و الحدود و الديات دون الفلاح و النجاح و ثواب الأعمال المتوقّف علي العمل الصالح و الخشوع في الصلاة و غيرها مما ذكر في الآيات الكريمة من سورة «المؤمنون» و غيرها.

و من المعلوم ان المراد من الايمان معناه الأعم الشامل للاسلام و هو ما يقابل الكفر، دون الخاص المبتني علي أصلين آخرين، هما العدالة و الولاية زائدا علي الأصول الثلاثة علي التفصيل المذكور في المفصّلات «1» و لا كلام فيما ذكر.

انما الكلام في كيفية تحقق الايمان بتلك الأصول الثلاثة في الاسلام أو الخمسة فيه، و في الايمان بمعناه الأخص و أنه هل يكفي في تحققه الإقرار باللسان أو أنه يتوقّف علي الاطمئنان بالجنان و القلب أو علي العمل بالأركان، أو علي النهاية لا بدّ من ارتباط كل بالآخر حتي يكون الإقرار بل العمل منبثقا من القلب معلولا عن اعتقاده بحيث يكون أمرا واحدا.

و الحق ما علي النهاية، قال علي (عليه السّلام): «الايمان معرفة بالقلب و إقرار باللسان و عمل بالأركان» (نهج البلاغة/ كلمة 227)، و المؤمن من صدّق قوله فعله، فلا كلام في اسلامه و ايمانه و له ما للمسلمين و عليه ما عليهم، و أما اذا لم يقرّ قلبه و اكتفي بالعمل بالجوارح فقط فهو عاص فاسق يعامل حسب فسقه، و أما اذا انفصل عنه الاعتقاد بالقلب و الاطمئنان بأن خالفه و نافق فيه و كان قلبه وراء لسانه، فان كان ذلك التفارق غير معلوم، فهو محكوم بالاسلام و الايمان سواء كان مظنونا أو مشكوكا فكيف اذا كان موهوما، و أما مع العلم بالفرق بين القلب و اللسان

و اليقين بكذبه، و إن

______________________________

(1)- و قد كتبنا في سالف الزمان رسالة باللغة الفارسية طبعت مرارا باسم «گمشده شما» و بعدها بفترة كتبنا رسالة أخري في التوحيد و العدل، باسلوب الحوار و باسم: «خدا و پيغمبر»، و ثالثة كتبناها تحت عنوان:

«بحث حول الولاية» تشتمل علي آيات الباب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 198

إقراره و عمله قد اتخذهما جنّة لكفره و حقنا لدمه و حفظا لعرضه و ماله و أن أعماله لا تكون إلا رئاء للناس يمكر بها المؤمنين، فهذا هو المنافق بعينه الذي قادنا البحث الي الكلام عنه و هذا هو الذي لا بدّ من محاربته و مقاتلته علي حدّ الكفّار كما في بعض الآيات الكريمة «1» بل انه حكم بكفره كما في الأخري «2» و نهي عن إطاعته و تولّيه و الانتصار به كما في الثالثة «3»، و إن لم يحكم بكفره عند بيان حاله في مقامات أخري، لا بدّ من الجمع بينها فنقول:

المنافق الذي أمرنا بمقاتلته و جعله رديف الكفّار و حكم بكفره و نهي عن إطاعته و تولّيه و الانتصار به هو الذي يراود الكفّار و أعداء الاسلام و يشاركهم في الحيل و الخدعة علي الاسلام و المسلمين و يعاضدهم بأيّ وجه من الوجوه الماكرة سواء كانت اقتصادية أو صناعية أو بالتجسس و التعرّض لهم، سواء كان في دار الاسلام و بلاد المسلمين بأن يعاشرهم في كل مرحلة و مقام، أو في بلاد الكفر و دار الحرب.

و أما المنافق الذي أوعده اللّه تعالي بالنار و عذاب الجحيم من دون أن يحكم بكفره و مقاتلته فهو الذي لا يراود الأعداء و لا يعاونهم في مخالفتهم للاسلام و المسلمين؛ و حيث انه لا يعتقد بأصول

الاسلام و لم يطمئن بها قلبه بل اتخذ الايمان و الإقرار جنّة لعرضه و ماله و دمه، و في لقائه مع المؤمنين يقول و يعترف بايمانه تظاهرا و رئاء للناس، فهو لم يحكم بكفره لعلّه يتدرّج الي درك الحق لكونه في جوّ إسلاميّ جاذب و هو العامل المؤثّر بهذا الصدد من وجود المسجد و السوق

______________________________

(1)- قال تعالي: «يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ جٰاهِدِ الْكُفّٰارَ وَ الْمُنٰافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ … » (البراءة [9] الآية 73)، و الآية المبحوث عنها هي في (المائدة [5] الآية 57) و غيرهما.

(2)- قال تعالي: «أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ مٰا هُمْ مِنْكُمْ» (المجادلة [58] الآية 14)، و الآية المبحوث عنها هي في سورة (النساء [4] الآيات 88- 91) و غيرهما.

(3)- قال تعالي: «يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّٰهَ وَ لٰا تُطِعِ الْكٰافِرِينَ وَ الْمُنٰافِقِينَ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً».

(الأحزاب [33] الآية 1).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 199

الاسلامي فان ذلك من أجلي خواص بلاد المسلمين و قد أشير الي ذلك بقوله تعالي:

لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فان اهتدوا و تابوا و أصلحوا فلهم أجرهم عند ربّهم و إن ماتوا علي نفاقهم فلهم عذاب أليم في الآخرة.

و الدليل علي هذا الجمع- بعد ما عرفت الآيات الدالة علي كفرهم و وجوب مقاتلتهم- يظهر من التأمل في الآيات الدالة علي إسلامهم في الظاهر نذكر بعضها و نشير الي الأخري:

المنافق الذي لم يحكم بكفره

الأولي- قوله تعالي:

وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ- الي قوله تعالي- إِنَّ اللّٰهَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ. (البقرة [2] الآيات 18- 20)

الآيات الكريمة- كما تراها- تبيّن حال المنافقين بعد ذكر المؤمنين و أوصافهم و الكفّار و حالاتهم بأن

المنافقين في قلوبهم مرض يقولون بألسنتهم: آمنّا باللّه و باليوم الآخر و لم تؤمن قلوبهم، و لهذا اذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا و اذا خلوا الي شياطينهم و أخلّائهم قالوا: إنّا معكم في العقيدة و التفكير، لا مع المؤمنين إنّما نحن مستهزءون.

و في ظنّهم أنهم يخادعون اللّه و المؤمنين مع انهم في الحقيقة لا يخدعون إلّا أنفسهم، فانه من الواضح أنهم في ضلالتهم التي اشتروها بالهدي قد خسروها و ما ربحت تجارتهم فهم في ظلمات لا يبصرون، و مثلهم في هذا كمن استوقد نارا يستضي ء بها و يهتدي الي طريقه فذهب اللّه بنوره و ناره و تركه في ظلمات لا يهتدي الي سبيل.

أولئك الذين قالوا آمنّا بألسنتهم و لم تؤمن قلوبهم، لم يحكم بكفرهم في الظاهر إلا أن يأتوا بما يوجب كفرهم من العمل أو الإنكار لدي المؤمنين و ارتكاب ما يخالف مصالح الاسلام و المسلمين بمعاونة الكفّار و المشركين الأعداء فيلحقون بهم في الحكم لا في الموضوع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 201

العادية، و لهم عذاب أليم و عذاب السعير بكفرهم باطنا، و أما تولّيهم في الأمور فلا بدّ من ملاحظة المصالح العامة للاسلام و المسلمين.

و كذلك يدل علي ما ذكرنا من حكم الايمان علي قسم من المنافقين في الظاهر لضعفهم و هم كفّار باطنا آيات كثيرة واضحة الدلالة «1» و صريحة الشاهد، و سيأتي الكلام فيها عند قوله تعالي: لٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ (الممتحنة [60] الآية 8).

و مما يؤيد ذلك بل يدل عليه السيرة القطعية النبويّة و عمل أصحابه و آله الطاهرين من المعصومين (عليهم الصلاة و السلام) فانه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لم يحارب

المنافقين في المدينة إلّا عند ما خرجوا علي الاسلام و لو بتعاونهم مع الكفّار في الحرب، و قد حارب المنافقين الذين كانوا مع المشركين في مكّة لمراودتهم الكفّار و سعيهم ضدّ الاسلام.

و محصّل الكلام: إن الذين يراودون الكفّار و يعاونونهم علي هدم الاسلام و تخريبه من المنافقين فهم كفّار في الحكم لا يجوز تولّيهم، و لا بدّ من محاربتهم كمحاربة الكفّار أيضا علي الشروط المذكورة؛ و من ذلك حرب الامام عليّ (عليه السّلام) مع الناكثين و القاسطين و المارقين.

أما المنافقين الذين اتخذوا أيمانهم جنّة و حقنا لدمائهم و حفظا لأعراضهم

______________________________

(1)- سورة البقرة [2] الآيات 204- 206.

سورة النساء [4] الآيات 1 و 139 و 142- 145.

سورة النور [24] الآيات 47- 50.

سورة محمد صلّي اللّه عليه و آله [47] الآية 61.

سورة المجادلة [58] الآيات 14- 21.

سورة آل عمران [3] الآيات 72- 73.

سورة التوبة [9] الآيات 42- 48 و 61- 68 و 101.

سورة الأحزاب [33] الآية 72.

سورة الحشر [59] الآيات 11- 15.

فانك بنفسك اذا راجعت تلك الآيات الكريمة تراها واضحة الدلالة علي ما ذكرنا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 203

فهم بحكم المؤمنين في الظاهر لهم ما لهم و عليهم ما عليهم، و لٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ … (الممتحنة [60] الآيتان 8- 9)، و سيأتي الكلام عنه إن شاء اللّه.

الثانية- قوله تعالي:

لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّٰهُ نَفْسَهُ وَ إِلَي اللّٰهِ الْمَصِيرُ* قُلْ إِنْ

تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّٰهُ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ وَ اللّٰهُ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ. (آل عمران [3] الآيتان 28- 29)

الآية الكريمة تنهي- بلسان الإخبار- عن اتّخاذ الكفّار أولياء من دون المؤمنين، و تؤكّد الأمر بأن المتخلّف عنه ليس من اللّه في شي ء بفعله ذلك، فكأنه يسقط عن نظر المسلمين و مرامهم، فهم الذين ينظرون بنور اللّه تعالي و عينه و يتّبعون رضاه، فمن اتّخذ من الكافرين وليّا فقد خرج عن رضا اللّه تعالي و رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فليس من اللّه في شي ء عند ذلك.

ثم استثني من ذلك بقوله تعالي: إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً و تتحرّزوا منهم عن الإفساد و التخريب فلا بأس بالوداد و التولّي ظاهريا و ذلك مع التحفّظ علي الأسرار، فان اللّه تعالي يحذّركم نفسه فلا بدّ من مراعاة حدوده و الخوف من تعدّيها فلا تعتدوا حدود اللّه بشي ء من الخوف و الجوع فتتبعوا أعداء اللّه و أعداءكم و تلحقوا بهم فتتركوا كيانكم في أيديهم باسم الاتقاء، فان التحرّز عن خطر الأعداء من التحفّظ علي الأساس و الكيان ضرورة عقلية و عقلائية.

فعند ما يتوقّف حفظ كيان الاسلام و الحياة الدينية علي التعارف و التواصل مع الكفّار لقلّة عدد المسلمين و ضعف عدّتهم أو لقوّة سلطان الكفّار و أجهزتهم الحربية و الصناعية فلا بأس به مع التستّر علي الأسرار و السعي في إعداد القوي و تهيئة كل

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 204

بآيات اللّه.. بعد هذا تنهي الآية الكريمة عن مجالسة المنافقين و الخوض معهم في أحاديث تنافي الاسلام، ثم تشدّد النهي و تؤكّد بأن من جالسهم فهو منهم و

بحكمهم، و اللّٰهَ جٰامِعُ الْمُنٰافِقِينَ وَ الْكٰافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً، و من بحكمهم كذلك، فانهم يتربّصون بالمؤمنين، فان كان لهم فتح من اللّه قالوا: أ لم نكن معكم؟ و نحن شركاؤكم فيما لكم، و أما إن كان للكافرين نصيب من الفتح قالوا: أ لم نستحوذ عليكم و نمنعكم من المؤمنين؟، و اللّه يحكم بينهم يوم القيامة، وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.

نعم لا بأس بمجالسة المنافقين اذا خاضوا في حديث غير حديث الإساءة للدين و آيات اللّه و أسرار المؤمنين، فعندئذ يجوز مواصلتهم و استخدامهم، فلا بدّ من التحفّظ عندئذ علي الأسرار و الأصول الاسلامية مع الانتفاع عن اطّلاعهم و عن كل ما ينتفع منهم في ذلك.

الرابعة- قوله تعالي:

لٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَليٰ إِخْرٰاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ. (الممتحنة [60] الآيتان 8- 9)

الآيات الكريمة- كما تراها- في سياق النهي الأكيد عن اتّخاذ أعداء اللّه و أعداء المؤمنين أولياء، الأعداء الذين يلقون الي المسلمين بالمودّة و قد كفروا بما جاء به الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) باطنا مع توضيح سرّ ذلك بآيات مشروحة، و التمثيل بقصّة إبراهيم (عليه السّلام) و الذين معه، فانهم قالوا لقومهم: إنّا برآء منكم، و قد مرّ البحث فيها مفصّلا، و دعوا ربهم بدعوات.

فالآية الكريمة توضّح مورد النهي و تشير إليه مشخّصا بأن اللّه تعالي لا ينهاكم عن الأعداء و المنافقين الذين لم يقاتلوكم و لم يكافحوكم في الدين و

لم تكن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 206

و السلام) و نوّابهم الخواصّ و عامّة العلماء و الفقهاء العاملين (رضوان اللّه تعالي عليهم)، و غيرهم غاصبون ظالمون.. تصرّفاتهم غير مشروعة إلا بتنفيذ الفقهاء و إجازتهم أو في ما لا يرضي الشارع بتركه من غير دخل للمباشر من الأمور الحسبية.

ثم علمنا في المقام أن تولّي الكفّار و قبول تصدّيهم للأمور هو من كبائر الذنوب، و كذلك تولّي المشركين و أهل الكتاب و الفسقة و المنافقين من المؤمنين الذين يسعون في الأرض فسادا.

و من المعلوم ان أجلي مصاديق الأخير هو حكّام الجور و أعوان الظلمة، و من ذلك ينبثق في النفس سؤال يصعب جوابه في ظاهر الأمر، و هو ما عمل به بعض أصحابنا الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) مع حكّام الجور و سلاطين الظلم في عصرهم، و عمّال زمانهم الظلمة و أعوانهم من مرافقة و معاشرة بل مدح و مجاملة، و في بعض الأحيان معاونة و مزاملة و هم يتذاكرون عن تحريم معاونتهم و يبحثون في حرمة تقويتهم بأيّ وجه و يروون عن الامام (عليه السّلام) جوابه لأحد الظلمة حيث قال: إنّك بنفسك منهم و الذين يلين ليّة دواتك هو المعاون لهم، و ينقلون الحديث النبويّ أيضا عن رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) حيث قال: «الفقهاء أمناء اللّه ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل:

و ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتّباع السلطان، فاذا فعلوا ذلك فاحذروهم علي دينكم» «1».

و محصّل السؤال هذا: إنّ الأمر إن كان كما ذكروه في كتبهم الفقهية و مصادرها الروائية و عمل به أكثر الأصحاب الأعلام من الانقطاع عن حكّام الجور و عمّالهم بل الردّ عليهم لا بل الكفاح و الجدال حتي

مجاهدتهم، فما وجه ما عمل به الآخرون من الأصحاب؟!

و إن كان الحق فيما كانوا يعملون به ذلك البعض، فما تأويل تلك الأحاديث

______________________________

(1)- الكافي/ باب المستأكل بعلمه/ ج 1 ص 46.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 208

ذلك كانوا يردّون عليهم بدعهم و منكراتهم الشنيعة بلا تأييد لهم أو إعانة.

إلا أن الحكّام كانوا سائسين ماكرين مستفيدين من سماحات العلماء و مواقعهم في الأمّة الاسلامية بتظاهرات و حيل فكانوا يمكرون بهم و بالمؤمنين لتقوية قوائم عروشهم الظالمة، و الناس همج رعاع يميلون مع كل ريح، فالأمر يرجع الي اختلاف تطلّع الفقهاء (رضي اللّه عنهم) علي الحوادث الواقعة و المسائل الاجتماعية و السياسية اللازمة الرجوع فيها الي الحاكم و حيث كان أكثرهم قليل الباع في تلك المسائل، كان يخدعهم الساسة الماكرون- عليهم ما عليهم-، و مع ذلك كان الأمر علي وجه اللازم من ناحية بعض الفقهاء في كل زمان علي مرّ التاريخ.

و الحاصل: إنّ الفقهاء العظام هم النوّاب العامّون علي أساس دوران الأمر بين المهم و الأهم، فهم كانوا و لا يزالون يعملون بوظائفهم فيما وكّلوا فيه من تصدّي الحكومة و التصرّف في أمور المسلمين و حفظ الشريعة و نشر الأحكام و إجراء الحدود علي اختلاف شروط الزمان و استنباطاتهم في الأمور و اطلاعاتهم علي الحوادث الواقعة و المسائل المستحدثة من غير تقصير أو إقدام علي خلاف مصالح الاسلام و المسلمين عمدا و علما- نعوذ باللّه من ذلك- إلا أن حكّام الجور و أعداء الاسلام كانوا أدهي و أسيس و لم يتقوا في شي ء، فانتهي الأمر الي ما تري؛ و عن عليّ (عليه السّلام) في ما عمله معاوية من مكر و خداع: «لو لا التقي لكنت أدهي العرب».

و لذلك ثمة

فرض علي الفقهاء العظام و النوّاب الكرام- زائدا علي معرفة الحلال و الحرام- معرفة الزمان و شروطه و لوازمه و إمكاناته حتي تسمح لهم المقدّرات الإلهية بإقامة الأحكام و الحدود الاسلامية و إعلاء كلمة اللّه تعالي في أرضه، كما ورد في روايات الباب- جعلنا اللّه من ناصري شريعة سيّد المرسلين إن شاء اللّه، و خذل اللّه الغاصبين الذين يبتغون في سبيل اللّه عوجا- آمين ربّ العالمين «1».

______________________________

(1)- و الحمد للّه و له الشكر علي ما أنعم علينا من توفيق قائدنا الأعظم الإمام الخميني (أدام اللّه ظلّه) لإقامة-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 209

خاتمة المطاف:

و لا بدّ لنا في ختام مسألة تولّي الكفّار من ذكر قوله تعالي:

مٰا كٰانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كٰانُوا أُولِي قُرْبيٰ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ الْجَحِيمِ* وَ مٰا كٰانَ اسْتِغْفٰارُ إِبْرٰاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلّٰا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّٰهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ لَأَوّٰاهٌ حَلِيمٌ.

(التوبة [9] الآية 113- 114)

فلقد نهي اللّه تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و المؤمنين بلسان النفي عن الاستغفار و الدعاء للمشركين بعد ما تبيّن لهم أنهم أصحاب الجحيم أيّا كانوا سواء من أولي قرباهم من الآباء و الأبناء و غيرهم أو من غيرهم، فلا يجوز إذن دعاء الخير لأعداء الدين من الكفّار و المشركين و الفسّاق الذين يسعون في الأرض فسادا و يبتغون في دين اللّه عوجا، فان اللّه تعالي جامع الكفّار و المنافقين في جهنّم جميعا. و أجلي المصاديق لهذا المفهوم هو حكّام الجور و الملوك الظلمة و موظفوهم أيضا، و لعلّه لهذا أفتي الزعيم الأكبر، الأستاذ الأعظم، العلّامة المجاهد، المنافح عن

حريم الاسلام، المكافح لأعداء الدين لا سيما الصهاينة الأعداء، آية اللّه العظمي الإمام الحاج السيّد روح اللّه الموسوي الخميني (أدام اللّه ظلّه علي رءوس المسلمين) أفتي بحرمة التأييد للمنظّمات الحكومية الجائرة بأي وجه من الوجوه و الدعاء لهم و الحضور في المجالس التي تعقد للدعاء لهم، و كذلك عدم جواز الخطابة و الإرشاد الاسلامي اذا تقيّد بالدعاء لهم، فان الضرر الحاصل من تأييدهم و تقويتهم أكثر من نفع الإرشادات الكذائية- كما تعلم-.

و اذا كان الأمر كذلك- كأنه يسأل عن دعاء إبراهيم (عليه السّلام) و استغفاره لأبيه آزر

______________________________

- الحكومة الاسلامية في الجمهورية الاسلامية الايرانية، و الحمد للّه- معاودين و مكررين- علي ما وفّقنا للعيش في زمن هذا القائد اليقظ و المدير المدبّر و في زمن هذه الجمهورية الاسلامية الحيّة- وفّقنا اللّه جميعا لنصرة الحق و الحقيقة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 211

و قد كان مشركا- و أجيب بأنه ما كان إلا عن موعدة وعدها إيّاه و لم يف بذلك حيث تبيّن له أنه عدوّ للّه فتبرأ منه و اعتزل عنه، كما تقصّه الآيات الكريمة في سورة مريم ([19] الآيات 41- 50)، إذ يقول تعالي: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتٰابِ إِبْرٰاهِيمَ … إِذْ قٰالَ لِأَبِيهِ يٰا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مٰا لٰا يَسْمَعُ وَ لٰا يُبْصِرُ وَ لٰا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً* يٰا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جٰاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مٰا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرٰاطاً سَوِيًّا* يٰا أَبَتِ لٰا تَعْبُدِ الشَّيْطٰانَ إِنَّ الشَّيْطٰانَ كٰانَ لِلرَّحْمٰنِ عَصِيًّا* يٰا أَبَتِ إِنِّي أَخٰافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذٰابٌ مِنَ الرَّحْمٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطٰانِ وَلِيًّا، فأجاب آزر ابراهيم وحده في قوله: قٰالَ أَ رٰاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يٰا إِبْرٰاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا قال إبراهيم

(عليه السّلام):

سَلٰامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كٰانَ بِي حَفِيًّا.

فقد وعد إبراهيم (عليه السّلام) آزر أن يستغفر له فيما فعل، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشيٰ، فلمّا تبيّن له أنه عدوّ للّه اعتزله و قومه و ما كانوا يعبدون من دون اللّه و تبرّأ منهم و هجرهم هجرا جميلا. و الآيات الكريمة في المقامين- كما تري- لا تدلّ علي أن ابراهيم (عليه السّلام) دعا لآزر أو أنه استغفر له، بل أنه وعده أن يستغفر له و لم يف له بذلك، و ان كان ظاهر صدر الآية الكريمة في المقام أنه دعا و استغفر له، بل أنه وعده أن يستغفر له كما يستظهر من قوله تعالي: وَ مٰا كٰانَ اسْتِغْفٰارُ إِبْرٰاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلّٰا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ (التوبة [9] الآية 114)، إلا أن آخر الآية و كلمة: مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ، و جملة: فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّٰهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ يوجب الانصراف عن ذلك الظهور، فلا إشكال إذن.

إن قلت: ظاهر خطابات النبي إبراهيم (عليه السّلام) و حكايات القرآن عنه «1» أن آزر

______________________________

(1)- قال تعالي: «وَ اذْكُرْ فِي الْكِتٰابِ إِبْرٰاهِيمَ إِنَّهُ كٰانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* إِذْ قٰالَ لِأَبِيهِ يٰا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مٰا لٰا يَسْمَعُ وَ لٰا يُبْصِرُ وَ لٰا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً* يٰا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جٰاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مٰا لَمْ يَأْتِكَ … يٰا أَبَتِ لٰا تَعْبُدِ الشَّيْطٰانَ … يٰا أَبَتِ إِنِّي أَخٰافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذٰابٌ مِنَ الرَّحْمٰنِ … قٰالَ أَ رٰاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يٰا إِبْرٰاهِيمُ … » (مريم [19] الآية 41- 50)، و لم يقل: يا بنيّ.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 212

[السادس:] قتل النفس المحترمة

اشارة

السادس: من الكبائر الموبقة بعد تولّي الكفّار قتل النفس المحترمة، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً. (النساء [4] الآية 29)

الآية الكريمة تنهي المؤمنين أن يقتلوا أنفسهم، بأن يقتل بعضهم بعضا أو يقتل نفسه انتحارا، فلا يجوز ذلك بغير الحق في غيره و نفسه بحال، و المؤمن باللّه تعالي و اليوم الآخر يعلم أن اللّه تعالي بيده ملكوت كل شي ء و له جنود السماوات و الأرض، فهو علي يقين بأن ما يصيبه بعد عدم تقصيره فيما يرتبط باختياره هو خير له و إن كان مكروها، و عسي أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم. و من كان هذا اعتقاده فلن ينقدح في نفسه القتل و عوامله فكيف بارتكابه و عمله.

حرمة الانتحار

فرع:

اذا دار الأمر بين انتحار شخص واحد و قتل نفوس متعددة محترمة مع هتك أعراض و نفوس أو بدونهما فيما اذا ابتلي المكافح بالأسر بأيدي الأعداء و هم يستخبرونه عن الأسرار و الأمور المنظّمة فيندفع الشرّ عن الآخرين بقتل نفسه، فهل يجوز ذلك علي أساس دوران الأمر بين الأهم و المهم و حكم العقلاء، أو لا تمسّكا بإطلاق النهي من غير تقييد؟

فالظاهر الجواز بعد إحراز الموضوع و انصراف الإطلاق عن مثل الموارد، و لا سيما بعد ملاحظة آخر الآية الكريمة: إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً، فان مقتضي الرحمة علي الجمع ذلك، كما ان الأمر كذلك في الاعتصامات و الاضرابات و كثير مما لا بدّ من العمل به في المقاومة و المكافحة السياسية و الاجتماعية ضد الطغاة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 213

و أعداء الدين بالنسبة الي أدلّة حرمة الإضرار بالنفس كما لا يخفي، و المرجع في المقامات بعد الفراغ عن إحراز الموضوع قاعدة الأهم و تقدّمه علي المهم عقلا و شرعا.

قتل الأولاد

الثانية- قوله تعالي:

قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلّٰا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً وَ لٰا تَقْتُلُوا أَوْلٰادَكُمْ مِنْ إِمْلٰاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ وَ لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ وَ لٰا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰهُ إِلّٰا بِالْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. (الأنعام [6] الآية 151)

الآية الكريمة- كما تراها- بصراحتها في صدد تعداد المحرّمات التي يتلوها النبيّ الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فهي تعدّ قتل الأولاد خشية إملاق منها، و اللّه تعالي هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، و هو الذي يرزقكم و أولادكم، وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلّٰا عَلَي اللّٰهِ رِزْقُهٰا وَ

يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهٰا وَ مُسْتَوْدَعَهٰا. و من المعلوم ان الحرمة لا تختص بذلك، و هو الداعي غالبا لمن لا يؤمن باللّه فلا تقييد بذكر الغالب، كما عدّت منها قتل النفس المحترمة بغير حق، فلا إشكال في دلالتها علي حرمة قتل النفس، سواء كان أولاده أو غيرهم أو نفسه بالانتحار أو غيره و ذلك خشية الإملاق أو غيره، فان ذلك كلّه اذا كان بغير الحق فهو ظلم.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْتُلُوا أَوْلٰادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلٰاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّٰاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كٰانَ خِطْأً كَبِيراً … وَ لٰا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰهُ إِلّٰا بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلٰا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً. (الإسراء [17] الآيات 31- 33)

الآيات الكريمة تنهي أيضا عن قتل الأولاد خلال النهي عن المحرّمات

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 214

و القبائح الأخري، و تردّ علي الوهم من خوف الفقر الموجب لذلك أحيانا، بأن اللّه تعالي يرزق العباد و يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر، إنّه كان بعباده خبيرا بصيرا؛ و المؤمن بذلك و بأن اللّه تعالي بيده الخير و هو علي كل شي ء قدير، و أنه الذي بيده الملك و يحيي و يميت و هو القاهر فوق عباده، يعزّ من يشاء و يذلّ من يشاء، لا يتصوّر القتل لذلك فكيف الانبعاث و العمل. ألا تري الي ما عند الغربيين المتّجهين بكلّهم الي المادة و مظاهرها الغافلين عن اللّه تعالي الخالق المتعال؛ من كثرة الانتحار و القتل و إسقاط الجنين، و لا يوجد ذلك بين المؤمنين.

الوأد

الرابعة- قوله تعالي:

وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ. (التكوير [81] الآية 8- 9)

دلالة الآية الكريمة علي حرمة قتل الولد، و هي أصرح من

الآيات السابقة، فان ما يسأل عنه يوم القيامة هو الوأد و أنّه بأيّ دليل، و أيّ ذنب أوجب ذلك. ثم إن السؤال عن كل عمل خلال وقوع مقدّمات الساعة و قبل قيام الساعة، كما هو ظاهر الآيات الكريمة فهو بحث تفسيري خارج عن هذا المجال، و إن كان لا يبعد تقدّم الظاهر و لعلّه لتجسّم الأعمال و تصوّرها عند بروز العلائم الموجبة للاضطراب فيسأل عن نفسه، و الجرائم حينئذ تتقدّم في ذلك، فكلّما كان الذنب أقبح كان أقدم، و لا ينافي ذلك أصل تجسّم الأعمال و تحققها و وقوع السؤال يوم القيامة.

إسقاط الجنين
اشارة

يحرم إسقاط الجنين سواء ولج فيه الروح أو لا، فانه بعد استقرار النطفة «1» في الرحم لا يجوز إسقاطه و إخراجه بحجة تقليل العائلة أو تسهيل العيش و ترفيهه،

______________________________

(1)- أثبت العلم الحديث أنّ الحيا من كائنات حيّة و هي التي تشكّل النطفة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 215

و لصدق قتل الولد، المنهيّ عنه، يشترك في جريمته هذه الطبيب «1» و الأم معا سواء كان بالعمل أو التداوي و عليهما الدية حسب اختلاف المدّة علي ما في كتاب الحدود. نعم لا بأس بالمنع عن ورود النطفة و استقرارها في الرحم بالعزل و غيره، فان قلّة العيال أحد اليسارين، و ان ورد في الحديث الشريف: «إنّي أباهي بكم الأمم و لو بالسقط»، و لا نعلم وجها لتقييد ذلك برضاء الزوجة فان حقّها أصل المباشرة و ان كان الطبيعي منها أجلي الأفراد، و الأكثر أنه مقتضي الاحتياط.

فرع:

اذا دار الأمر بين إسقاط الجنين و موت أمّه علي القطع، لا يبعد الجواز، علي أساس دوران الأمر بين الضررين فيقدّم الأقل، و لا سيما اذا كان الأمر بوجه ينتهي الي موتهما بترك الإسقاط كما هو ظاهر.

قتل المؤمن
اشارة

الخامسة- قوله تعالي:

وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلّٰا خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِليٰ أَهْلِهِ إِلّٰا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كٰانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كٰانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِليٰ أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ شَهْرَيْنِ مُتَتٰابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّٰهِ وَ كٰانَ اللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا وَ غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذٰاباً عَظِيماً. (النساء [4] الآية 92- 93)

صراحة الآية الكريمة تنادي بتنافي الايمان و قتل المؤمن إلا خطأ، فانه لضعف الايمان أو لتغلّب الشيطان اما لو قتل مؤمنا متعمّدا فجزاؤه جهنّم خالدا فيها و ذلك بغضب من اللّه تعالي و عذابه و لعنته، فالآية الكريمة تدلّ علي أن القتل محرّم

______________________________

(1)- و مما أبدعته الحكومة الجائرة البهلوية هو جواز ذلك مطلقا.. خذلهم اللّه و من تبعهم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 216

و ذنب كبير بلا إشكال، و أما حدّ الخطأ منه ففي كتاب الحدود.

السادسة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰهُ إِلّٰا بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلٰا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً. (الإسراء [17] الآية 33)

تدلّ الآية الكريمة علي حرمة قتل النفس المحترمة، و لا فرق في أن يقتل نفسه أو غيره، و تنهي الآية الكريمة

بنهي صريح عن ذلك و عن كونه مؤمنا أو غير مؤمن، فان الذميّ محترمة نفسه كاحترام عرضه و ماله و غيره أيضا، فان كان متعاهدا مع المسلمين و في حال الهدنة فهو أيضا كذلك، و أما غير المحترم أي المهدور دمه فهو علي شروط من أمر الحاكم و من بيده الأمر أو في الحرب من غير حرج و جزاف حتي يجوز قتله لكل أحد بأيّ وجه، إلا أن يكون محكوما بذلك.

و أما من قتل مظلوما بغير حق فلوليّه سلطان و اختيار من القصاص أو الدية، و المظلوم منصور بسنّة اللّه تعالي التي لا تبديل لها.

تنبيه:
اشارة

لا يخفي ان القتل مما استقلّ العقل في الحكم بقبحه الذاتي، و كل من سلمت فطرته يدرك ذلك بعقله و يتنفّر بطبعه منه، و قد أرشد إليه الشارع المقدّس بتحريمه و تحريم الانتحار بقتل النفس و تحريم قتل الولد، و ما هذا شأنه لا يمكن التقرّب به الي اللّه تعالي فان المبعّد بذاته لا يكون مقربا.

و هذا سؤال كان يختلج بالبال في سابق الأحوال و لم ينحل بأصله الي الآن مع المباحثة مرارا عند أهل الفن:

موضوع نذر عبد المطّلب

و هو أنه: ما معني نذر عبد المطّلب في ذبح ولده إن رزق كذا و كذا، فكان عبد اللّه الذي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 217

هو أبّ لرسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، و كلّما همّ بالوفاء بنذره منعوه حتي انتهي رأيه و أمره لأن يفديه بالإبل علي رأي الكاهنة علي ما في السير، و أيّدوا ذلك بما روي عن النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بأنه قال: «أنا ابن الذّبيحين» أراد بهما: إسماعيل و عبد اللّه؟

و كلامنا في الناذر و قد كان مسلّما لدين الحق في زمانه مستنا بسنّة إبراهيم (عليه السّلام)، و القبائح العقلية ممنوعة محرّمة في كل شريعة إلهية فكيف أنه نذر و يتقرّب به.

و لا تقاس هذه القصّة بقصّة إبراهيم خليل الرحمن (عليه السّلام) فان الأمر في الأخيرة من قبل اللّه تعالي و هو يكشف عن وجود مصلحة غالبة فلا بدّ من الإطاعة الكاملة حيث هي قضية تعبّدية مع انه انكشف أن الأمر كان صوريا امتحانيّا، فانه لو كان عالما بذلك من أول الأمر لم يكن الانبعاث كاشفا عن إخلاصه و خلّته، كما لا يقاس بما أمر اللّه تعالي به بني

إسرائيل في قوله تعالي: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» عند استتابتهم، فان الأمر أيضا يكشف عن المصلحة الغالبة في خصوص المورد.

و أما ما يقال من أن ذلك أقوي دليل علي كمال العبودية و التسليم و ان تقديم أعزّ الأشياء و أحبّ الأمور لأجل المولي و المعبود دليل علي كمال الاخلاص، فان هذا غير تام أيضا، لأن ذلك يمكن.. حينما يكون الشي ء و الأمر له و باختياره بحيث يتمكّن من التصرّف فيه كيف يشاء، و الانسان لا يملك نفسه فكيف بولده؟ و يحرم عليه التصرّف فيه بالإعدام و الانتحار.

فلم يبق لنا إلا التشكيك في أصل القصّة و ردّ الحديث الي أهله لو تم السند.

______________________________

(1)- قال تعالي: «وَ إِذْ قٰالَ مُوسيٰ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخٰاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِليٰ بٰارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بٰارِئِكُمْ فَتٰابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّٰابُ الرَّحِيمُ». (البقرة [2] الآية 54)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 218

[السابع:] الزنا

السابع: من الكبائر الموبقة بعد القتل: الزنا، و هو موضوعا: وطء المرأة المحرّمة مطلقا، و لعل ذلك مراد صاحب المفردات في تفسيره بوطء المرأة من غير عقد شرعيّ إن كان المراد من العدم ما يشمل عدم الموضوع كما في المحرّمات النسبية، و لا اشكال في حرمته حكما بل أصل الحرمة من ضروريات الدين مع انه مما يمنعه العقلاء بما هم كذلك، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْرَبُوا الزِّنيٰ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً وَ سٰاءَ سَبِيلًا. (الاسراء [17] الآية 32)

الآية الكريمة تنهي عن الدنوّ و التقرّب من الزنا بتصوّره و تخيّله و سائر مقدّماته المقرّبة إليه، فكيف بالارتكاب و العمل، فانه فاحشة قبيحة، و معصية كبيرة، و سبيل منحرف عن الفطرة و الطبيعة السليمة من تحديد

الغرائز بحدود، و تقييدها بشروط و ظروف، و لا سيما مثل تلك التي عليها بقاء الانسان و طهارته- كما عرفت ذلك تفصيلا في كتاب النكاح-.

و أنت تعلم ان لسان الآية الكريمة- زائدا علي أصل الحرمة- يفيد أنه من الكبائر الكبيرة.

و قد أشرنا الي أنه أمر قبيح يمنعه العقلاء عن كل قوم و ملّة و يعدّونه سفاحا، و هو مردود قبال النكاح المقبول، و لكل قوم نكاح فانه الطريق السويّ الطبيعي لحفظ النسل و صلاحه و ستحفظ الفرد و المجتمع عن كثير من المفاسد، و قد جعل الشرع الاسلامي لمرتكبه المذنب حدّا لا بدّ من إجرائه تشديدا و تحكيما للأمر- كما مرّ في الحدود.

الثانية- قوله تعالي:

الزّٰانِي لٰا يَنْكِحُ إِلّٰا زٰانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزّٰانِيَةُ لٰا يَنْكِحُهٰا إِلّٰا زٰانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ. (النور [24] الآية 3)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 219

تخبر الآية الكريمة بأن الرجل الزاني لا ينكح إلا امرأة زانية أو مشركة، مع انه ينكح غيرهما و يصحّ نكاحه بلا إشكال، و كذلك المرأة الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك مع انها تنكح من قبل غيرهما و يصحّ نكاحها إن كان المراد من النكاح العقد و قرار النكاح و تعاهدهما دون الوطء فانه بعيد لا يناسب المقام، و الخبر هذا يكون بقصد الإنشاء، و قد قال تعالي: وَ لٰا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكٰاتِ حَتّٰي يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لٰا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّٰي يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ … (البقرة [2] الآية 221).

فليس للمؤمن أن ينكح مشركة و لا للمؤمنة أن تتزوج مشركا و لو مع الإعجاب بالحسن الظاهري، و الزاني و

الزانية- بعد ملاحظة الآيتين- ليس لكل منهما أن ينكح الآخر حتي مع الإعجاب. و تنزيل الزاني و الزانية منزلة المشرك أبلغ من التصريح بالحرمة الشديدة، فان الزنا يجعلهما بمنزلة الشرك، و الشرك ظلم عظيم، و الزنا ذنب كبير، فان الفاحشة التي تهوي بمقترفها الي الشرك و تجعله في سلك المشركين و بحكمهم لهي أفحش عصيان و أقبح ذنب، يورث بعد العبد عن المولي الي ذلك الحد «1».

الثالثة- قوله تعالي:

قٰالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلّٰا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجٰاهِلِينَ. (يوسف [12] الآية 33)

القرآن الكريم حينما يقصّ أحسن القصص- الشاملة علي مباحث كثيرة و مسائل مختلفة- فهو يحكي مقالة يوسف الصدّيق (علي نبيّنا و آله و عليه السلام) بعد اعتراف امرأة عزيز مصر بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، و تهديدها إيّاه بقولها:

لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مٰا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصّٰاغِرِينَ بقوله: رَبِّ السِّجْنُ

______________________________

(1)- و قد مرّ البحث عنه إجمالا في كتاب النكاح.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 220

الذي توعّدوني به أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من الانحراف و ارتكاب ما لا ينبغي.

و من المعلوم أن تفضيله السجن كان لشدّة حرمة ما كانت امرأة العزيز تدعوه إليه شرعا، مع مناسبة الشروط التي كانت فيها طبعا. لقد كان الصدّيق علي حدّ من الطهارة و العبودية لم يكن التهديد ليؤثر فيه، بل صرّح باختيار العذاب الدنيوي فرارا عن معصية اللّه تعالي و عذاب الآخرة، كما هو ظاهر.

فالقصّة تدلّ علي الحرمة الشديدة لديه، و انه كان متشرّعا بملّة إبراهيم الحنيف المسلم «1»، و ان كان الأمر كما قلنا من الحرمة العقلائية بل هي عقلية أرشد إليها الشارع المقدس، فالأمر واضح مع انه

الآية الكريمة ترشد الي أمر آخر أزيد من الحرمة و هو أن الإرهاب و التهديد حتي مع العلم بالعمل لا يحلل حراما و لا يحرّم حلالا بل الأمر يدور مدار مسألة الأهم في نظر الشرع المقدّس و عينه الباصرة- كما هو ظاهر-.

[الثامن:] اللواط

الثامن: بعد الزنا يأتي اللواط الذي هو من الذنوب الشنيعة و الجرائم الفظيعة و المعاصي الكبيرة، و هو مثل الزنا، فهو انحراف عن الطبيعة في أعمال الغريزة الجنسية، و كل انحراف مفسدة. و كلّما ازداد ازدادت المفسدة. و اللفظ مأخوذ من اسم النبي «لوط» الذي كان ينهي بشدّة قومه عن ذلك العمل المنحرف الشنيع المتداول لديهم، و في اللغة هو بمعني اللصوق، و في البحث آية، هي:

قال تعالي:

وَ لُوطاً إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفٰاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ* أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ

______________________________

(1)- «مٰا كٰانَ إِبْرٰاهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لٰا نَصْرٰانِيًّا وَ لٰكِنْ كٰانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مٰا كٰانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

(آل عمران [3] الآية 67)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 221

الرِّجٰالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسٰاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. (النمل [27] الآية 54 و 55)

تحكي الآية الكريمة مقالة النبيّ لوط (علي نبينا و آله و عليه السلام) لقومه في مقام تقبيحهم أعمالهم و الإنكار عليهم بقوله: أَ تَأْتُونَ الْفٰاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ بعدها عن الطهارة و الفضيلة؟ و كيف تأتون الرجال شهوة مع أن الخلقة و الطبيعة يشهدان خلاف ذلك، و اللّه تعالي خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، فأنتم إذن قوم تجهلون.

ثم تحكي الآيات الكريمة- غير التي ذكرت آنفا- جواب قوم لوط (عليه السّلام) بعد حكمهم بإخراج آل لوط من قريتهم اعترافا منهم بأن آل لوط أناس يتطهّرون و هذا اعتراف و إقرار منهم أيضا

علي أنفسهم بأنهم أناس ملوّثون و انهم في رجس و انحراف، و لعل ذلك أمر عقلائي يستقبحه كل قوم و ملّة ابتداء، فهو فحشاء ملموسة و رجس و لوث قد انتهي الي دمار القوم و بلادهم فكانوا من الغابرين حيث قد أمطر عليهم مطر السوء.. مطر المنذرين.

و حكاية القصّة في القرآن الكريم و اختتامها بقوله تعالي: قُلِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ وَ سَلٰامٌ عَليٰ عِبٰادِهِ الَّذِينَ اصْطَفيٰ آللّٰهُ خَيْرٌ أَمّٰا يُشْرِكُونَ تعطي الحرمة في الاسلام أيضا مع ما في السنّة المباركة من تشديد العذاب.

و حدّ المقترف كما في الحدود، و ما يترتّب عليه من الأحكام من حرمة أمّ المفعول و أخته و بنته علي الفاعل تنزيلا منزلة الزوجة المحرّمة أمّها و أختها و بنتها علي الزوج كما في كتاب النكاح و المحرّمات السببية، فالتفصيل في السنّة المباركة في مقامه.

[التاسع و العاشر:] الخمر و الميسر

التاسع و العاشر: شرب الخمر و عمل الميسر، فهما من الكبائر المهلكة للفرد و للمجتمع، و في البحث آيات:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 222

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ عَنِ الصَّلٰاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. (المائدة [5] الآية 90- 91)

الآية الكريمة- كما تري- تخاطب المؤمنين و تشرح لهم حقيقة خارجية و واقعية طبيعية من أن الخمر فيه كل التقلّبات و كل الخيانات، و كذلك في صنعه و حفظه و بيعه و شرائه و شربه و كل ما يتعلّق به، و كذلك الميسر و آلاته، و الأنصاب و الأزلام أيضا، فكل هذا رجس، و هو من

عمل الشيطان حقيقة لا جعلا و تنزيلا، و لذلك تأمر الآية الكريمة بالاجتناب عنها من أجل الوصول الي الفلاح، فانه لا يمكن الفلاح من دون الاجتناب عن ذلك كلّه.

ثم تشير الآية الكريمة الي حكمة الأمر من ان الشيطان يريد أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء فيأمركم بشرب الخمر و ارتكاب الميسر و نوع منه الأزلام و كذلك الأنصاب فانه شرك باللّه تعالي. و الانسان السكران المضطرب يميل الي الغلبة في الميسر و ينتهي الأمر الي التعادي و التباغض و التضارب، فيبتعد عن اللّه تعالي و ذكره و عن الصلاة و عن كل عمل صالح، فينحرف بذلك عن سبيل اللّه، فهو متّجه الي سبيل الشيطان و طريقه، و ذلك هو الخسران المبين.

و كيف ما كان، فلا إشكال في دلالة الآية الكريمة علي حرمة الخمر و الميسر، و من المعلوم أن عمل الشرب و الاشتغال بعمل الميسر محرّم قبل سائر الأمور المربوطة بهما، و لحن الآية و شدّة الحرمة يفيدان أنهما من الكبائر- كما لا يخفي.

الثانية- قوله تعالي:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا … (البقرة [2] الآية 219)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 223

فقد أمر اللّه تعالي رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)- بهذه الآية الكريمة- بأن يجيب عن السؤال حول حكم الخمر و الميسر بأن فيهما اثما كبيرا و منافع للناس إلا أنّ إثمهما أكبر من نفعهما. و من المعلوم حرمة ما يكون فساده أكثر و أكبر من صلاحه، إلا أن يستعمل في جهة الصلاح. و توصيف الإثم بالكبير و ظهور المسئول عنه في شرب الخمر و عمل الميسر تصريح بأنهما من الكبائر و

إن لم يكن كل التقلّبات فيهما كذلك.

و نفع الخمر في التداوي من غير الشرب و في الصنائع المتداولة في قسم منه شديد الإسكار الي حدّ السم القاتل، و كذا نفع الميسر في اشتغال الفكر و تقويته تمرينا أقلّ قليل قبال المفاسد الكثيرة الحاصلة عن شرب الخمر و عمل الميسر في الفرد و المجتمع، كما صرّح بها قوله تعالي قبل هذا.

و من المعلوم أيضا أن ما ذكر في الخمر لا يكون إلّا لإسكاره، فالحكم يسري الي كل مسكر مائعا كان أو غيره استعمل بأيّة طريقة كانت كما في المسحوقات المتنوّعة في زماننا هذا، فان ذلك كلّه حرام شربه و تدخينه و استعماله.

و أما ما توهّم من أن إطلاق الرجس علي الخمر و الأمر بالاجتناب عنه مطلقا لا يفيد إلّا أنه نجس مجتنب، ففيه ما لا يخفي بعد توصيفه بأنه من عمل الشيطان، و عطف الميسر و غيره عليه بحيث لا يناسب إلا الحرمة.

الكبائر التي عددناها الي الآن كانت ترتبط بحياة الفرد و تأثيرها في خسرانه و شقائه أكثر مما تؤثّر في المجتمع مع ان كل فرد اذا هوي و فسد، فقد فسد الجمع بكلّه.

[المحرمات التي تفسد المجتمع اكثر من فساد الفرد]

اشارة

ثم نذكر هنا في المقام ذنوبا و كبائر تفسد المجتمع أكثر من فساد الفرد و إن كان الفرد أيضا يتأثّر في مجتمعه و يتلوّن بلونه في الجملة، و الكلام فيها علي منطق القرآن؛ و الذنوب هي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 224

1- التطفيف
اشارة

و هو التقليل في المكيال و الميزان و تنقيص حق الغير عند أدائه في المعاملات و المبادلات، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا عَلَي النّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَ لٰا يَظُنُّ أُولٰئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. (المطففين [83] الآيات 1- 5)

الآيات الكريمة تنذر و تحذّر المطففين الَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا عَلَي النّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ بأن لهم الويل و العذاب. و لسان الآيات الكريمة فيهم أنهم لا يعتقدون بيوم القيامة و البعث و الحساب و الكتاب، و كذلك الجنّة و النار، مع ان ذلك كلّه حق واقع، و الذين يفجرون و يتجاوزون حدود اللّه تعالي و يتصرّفون في حقوق الناس بغير حق مأواهم السجّين و ما أدراك ما سجّين، و المطفف بفجوره هذا كأنه مكذّب بيوم الدين و هو المعتدي الأثيم.

و من المعلوم أن الذنب الذي يعدّ مقترفه كالمكذّب بيوم الدين و يطلق علي مرتكبه الأثيم فهو من الكبائر و هو ذنب عظيم.

الثانية- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰي يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ لٰا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلّٰا وُسْعَهٰا وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبيٰ وَ بِعَهْدِ اللّٰهِ أَوْفُوا ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. (الأنعام [6] الآية 152)

نهي اللّه تعالي في هذه الآية الكريمة عن التقرّب من مال اليتيم،

فكيف التصرّف فيه إلا بالتي هي أحسن الوجوه من تأمين مصالحه المادية و المعنوية الحالية و المستقبلية حتي يبلغ أشدّه و ينتهي الي رشده و معرفة مصالحه و مضارّه بنفسه فليسترد عندئذ أمواله بتمامها من غير نقص.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 225

ثم أمر تعالي بايفاء الكيل و إتمامه، و رعاية القسط في الميزان من غير زيادة و نقصان، و عند القول بشي ء من ذكر الحق، و العدل عند بيان أمر و وصف شي ء، سواء كان حال المعاملة و المعاوضة أو لا، و سواء كان الآخر من ذوي القربي أو لا.

ثم الأمر بالوفاء بعهد اللّه تعالي و التأكيد بأن ما ذكر من الأمر و النهي هو ممّا وصّاكم به اللّه تعالي لعلّكم تذكّرون و تعملون بها فتهتدوا، و تفلحوا.

و من المعلوم أن ذكر تلك الأوامر و النواهي في سياق واحد يفيد حرمة التطفيف، سواء كان في اداء مال اليتيم أو غيره، و سواء كان من الأقرباء أو من غيرهم، و يجب الوفاء بالعهود و العقود في المعاملات و غيرها و إيفاء الكيل مطلقا فيها، أو في اداء مال اليتيم، فان التطفيف و تنقيص حق الغير في الاداء سرقة محرّمة وضعا و تكليفا، فان الحرمة التكليفية المعاقب عليها في الآخرة غير اشتغال الذمّة بمال الغير و حقّه مع ان تحريم التطفيف و التخسير غير ايجاب التتميم و الوزن بالقسط بحسب الاعتبار إثباتا و نفيا، إلا أن مرجعهما واحد لمقام الوضع بعد التكليف مع الغمض عن تبعيّة أحدهما للآخر علي ما في الأصول.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذٰا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطٰاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا. (الإسراء [17] الآية 35)

الآية الكريمة تأمر بايفاء الكيل و إتمامه

و إكماله، كما تأمر بالوزن بالقسطاس المستقيم الذي لا يحيف مال الغير و لا يزيد بل يعدل بالحق من غير زيادة و نقصان، و الأمر صريح في الوجوب.

و من المعلوم أن تكميل الكيل و الوزن بميزان مستقيم لا يكون إلا لأداء مال الغير و حقّه تماما من غير نقيصة و زيادة مع ان اعتبار الوجوب غير الحرمة، و انتزاع حرمة التطفيف و التنقيص في أموال الغير من ذلك الأمر كانتزاع وجوب أداء مال الغير من وجوب الوزن بالقسطاس المستقيم. و كيف كان، فالوضع غير التكليف،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 226

و المستفاد من ذلك: الوجوب بعد الحرمة التكليفية لتطفيف الوضع و اشتغال الذمّة بمال الغير و حقّه، كما كان الأمر كذلك في الأمر السابق في الآية الكريمة السابقة و فيما يلي من قوله تعالي بهذا الشأن:

الرابعة- قوله تعالي:

أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لٰا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَ زِنُوا بِالْقِسْطٰاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.

(الشعراء [26] الآيات 181- 183)

فان دلالة الأمر في الوفاء و الوزن واحد، و لكن النهي عن التبخيس في الأشياء و العمل بوجه يعدّ من المخسرين و المفسدين يفيد حرمة التطفيف و التنقيص في أداء مال الغير و حقّه.

تنبيه:

إنّك تجد في الآيات الكريمة أن المسألة لم تكن وضعيّة فقط بحيث كان المطفف مديونا لصاحب المال حتي تفرع ذمّته بأدائه بعينه اذا كان مشخّصا أو بمثله و قيمته اذا لم يكن، بل العمل بنفسه محرّم أيضا، فان المطفف كأنه مكذّب بيوم الدين و هو معتد أثيم و من أصحاب السجّين، و عليه التوبة من الذنب بعد افراغ الذمّة و تحصيل رضا اللّه تعالي و غفرانه بعد رضا صاحب المال.

مع

إنك قد عرفت سابقا أن إطاعة المولي و امتثال أوامره و نواهيه- حتي الإرشادية منها- في الوضع و التكليف- يورث فضيلة للعبد و تقرّبا من المولي و استحقاقا له زائدا علي مقتضيات الأوامر و النواهي من المصالح و المفاسد، كما ان ترك أوامره أو ارتكاب نواهيه الإرشادية أيضا يورث الظلمة و البعد عن مقامه، غير تحمّل مفسدة العصيان أو العذاب، فان مراعاة مقام المولي و رعاية عناياته بما هو، أمر آخر غير الإطاعة و العصيان و ما يترتّب عليهما.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 227

الخامسة- قوله تعالي:

وَ السَّمٰاءَ رَفَعَهٰا وَ وَضَعَ الْمِيزٰانَ* أَلّٰا تَطْغَوْا فِي الْمِيزٰانِ* وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا تُخْسِرُوا الْمِيزٰانَ. (الرحمن [55] الآيات 7- 9)

الآيات الكريمة- كما تراها- جعلت النهي عن الطغيان في الميزان و الأمر بالقسط فيه و التحرّز عن الخسران، بين رفع السماء و وضع الميزان في رفعه و وضع الأرض للأنام.

و بهذا فقد أشار قوله تعالي الي لزوم رعاية الميزان بالقسط و تحقق العدل في الميزان عند أداء حقوق الناس و أموالهم علي حدّ الميزان و القسط الذي يكون في نظام السماوات و الأرض من الشمس و القمر في السماء و النجم و الشجر في الأرض بحيث ينتهي التخلّف في هذا النظام المنظّم الي الفساد و الخراب في الطبع و الخلق، كذلك الطغيان و الخسران في ميزان أموال الناس و حقوقهم سيخلف الفساد في حياتهم الاجتماعية و في علاقاتهم الانسانية.

هذا، و ان كان قد يحتمل أن يكون المراد من الميزان المأمور باقامة القسط فيه هو ميزان معرفة الخالق الرافع للسماوات و الواضع للأرض، الذي هو العقل و التفكّر، فان الخسران و الطغيان فيه ينتهي الي الكفر و فساد أصل

الانسان و ايمانه، و الغرض الأساس من خلقه و هو معرفة الربّ، و ان كان تفسير الطغيان في ذلك البيان لا يخلو من تكلّف.

و كيف ما كان، فالأمر خطير حسب معادلته مع نظام الموجودات في خلق السماوات و الأرض. فان كان المراد هو الأول فتدلّ الآية الكريمة علي أن التنقيص و الطغيان عن الحدّ عند الأخذ و الإعطاء ذنب كبير.

و الذي تجدر الاشارة إليه في ختام هذا البحث هو أن ملاكات الأحكام الشرعية و مقتضياتها لا تكون إلا منطقية مع التكوين و نظام السماوات و الأرض، و كأن نظام الشرع المقدّس في أحكامه الخمسة متّخذ من نظام الطبع بعلم اللّه تعالي الذي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 228

هو خالق الخلق و رازقهم و مشرّع الشرع لهم.

السادسة- قوله تعالي:

وَ إِليٰ مَدْيَنَ أَخٰاهُمْ شُعَيْباً قٰالَ يٰا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ وَ لٰا تَنْقُصُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ إِنِّي أَرٰاكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ* وَ يٰا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. (هود [11] الآية 84- 85)

القرآن الكريم يقصّ حياة أنبياء اللّه تعالي و رسله (عليهم السّلام) بأصول شرائعهم و مكالماتهم مع قومهم و أممهم في مقام الإرشاد و هداية الناس الي ربّ الأرباب حتي ينتهي الي بيان قصّة النبيّ شعيب (عليه السّلام) و ذلك في سورة هود «1»، فقال لقومه:

اعْبُدُوا اللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ و ذكر في سياق ذلك، الأصل العريق و أعمد الأركان في كل شريعة و هو قوله: وَ لٰا تَنْقُصُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ ثم أوعدهم بأني أَرٰاكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ.

يٰا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ من غير تخسير و تنقيص، ف لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ، فان ذلك ينتهي الي الفساد، وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.

و من المعلوم أن ذلك الوعظ و الأمر مع بيان ترتّب العذاب علي تركه في سياق أبسط الأصول الاعتقادية يدلّ علي حرمة التنقيص في المكيال و التطفيف في الميزان بأشدّ وجه.

و الحاصل: إن هذه الآيات تدلّ علي أن التطفيف في المكيال محرّم شرعا و تكليفا، زائدا علي الوضع و اشتغال الذمّة، علي ما في كتاب التجارة عند الكلام في العوضين.

______________________________

(1) و شطر من ذلك في سورة الأعراف.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 229

2- الرّشوة
اشارة

الثاني من المحرّمات التي تفسد المجتمع أكثر من الفرد الرشوة، و هي المال الذي يعطي و يؤخذ لا عن حق لتغيير الحق بالباطل، و تبديل الأمر الذي عليه و تحريفه الي غيره و عكسه، في حين لا بدّ من الحكم بالحقّ و جعل الأمر فيما لا بدّ أن يجعل فيه، مع علم الآخذ و المعطي أو أحدهما أو بدون العلم، فاذا علما الحق و لم يحكم به إلا بعد أخذ مال لا عن حقّ أو أخذ ليحكم بغير الحق، و كذلك فيما اذا علم الحاكم الحق فقط و أخذ شيئا ليحكم بالحق في تصوّر المعطي فحكم بالحق أو بالباطل، و الأمر كذلك في عكس ذلك فاذا علم المعطي الحق فأعطي ليحكم الآخذ حسب ظواهر الأمر مع أنها خلاف الحق فان ما يعطيه يعدّ رشوة و ما يأخذه سحتا «1».

و الحكم في ذلك كلّه ظاهر، حيث يحرم الأخذ و الإعطاء كما تحرم الدلالة و الوساطة فيها، و في المقام آيات، هي:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ

بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَي الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 188)

تنهي الآية صراحة عن أكل المال بالباطل أوّلا بأيّ وجه من الوجوه، سواء كان من بيت المال أو من أموال الناس، كأكل مال اليتيم بغير وجه شرعي أو غيره؛ و منه المال الذي يؤكل بحكم الحاكم بغير حق، و هو يعلم بذلك الحكم لأمر لم يتبيّن واقعه علي الحاكم و تبيّنه عنده أو لما تدلّي به إليه من إعطاء شي ء ليحكم له بما ليس له من مال الغير و فريق من أموال الناس.

و ثانيا: تنهي الآية الكريمة عن التدلّي الي الحكّام بالأموال و إعطاء شي ء لهم ليحكموا بغير الحق، و بهذا يأكلون فريقا من أموال الناس بالإثم، و النهي ظاهر بل

______________________________

(1) و لقد ذكرنا كلمات القوم و مواضع الآيات و روايات الباب بتفصيل في رسالتنا «القضاء في الاسلام» ص 113.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 230

صريح في الحرمة، و اذا كان التدلّي بها حراما، فلا فرق بين الأخذ و الإعطاء، فكما أن ذلك حرام علي المعطي المتدلّي فهو كذلك حرام علي الحاكم و القاضي الآخذ، و ليس ذلك إلا الرشوة الموجبة لانحراف الحق عن سبيله المنتهي الي الفساد المحرّم عقلا و شرعا. قال تعالي: وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.

الثانية- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبٰارِ وَ الرُّهْبٰانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ … (التوبة [9] الآية 34)

تذمّ الآية الكريمة كثيرا من علماء اليهود و النصاري لأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل و يصدّون عن سبيل اللّه، و من المعلوم أن الأموال التي كانوا يأكلونها بالباطل لم تكن في معاملاتهم التجارية فانهم

كانوا علماء لا تجّار، بل انهم كانوا في طريق صدّهم عن سبيل اللّه و تلبيسهم الحق بالباطل و حكمهم بغير الحق، و لا سيما في مسألة الاسلام و ظهور النبي الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فان اليهود و النصاري كانوا يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم و مع ذلك كانوا يعطون علماءهم المال ليحكموا بما يريدونه، و ليلبسوا الحق بالباطل. و كان علماؤهم يأكلون أموال الناس بالباطل و يصدّون عن سبيل اللّه و عن معرفة الحق و الاسلام.

و من المعلوم أن إثم العلماء و ذنبهم في تلبيسهم الحق بالباطل و أخذهم الأموال لذلك بالباطل تحفّظا علي رئاستهم الدنيوية و أكلا لأموالهم مع جهل الناس بذلك، كان أعظم، و لا ينافي عدم الحرمة علي المعطين فان ذلك نوع ارتشاء من القابل و ان لم يعلم المعطي كما أشير إليه في آخر الآية الكريمة السابقة: وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فان العلم بأن ذلك المال كان لإبطال الحق أو لإحقاق الباطل و للحكم بغير الحق و تلبيس الأمر يوجب أن يكون ذلك رشوة سواء كان ذلك العلم من الطرفين أو من طرف واحد.

الثالثة- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 231

سَمّٰاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جٰاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. (المائدة [5] الآية 42)

تقصّ الآية الكريمة أوصاف بعض الذين هادوا بأنهم يحرّفون الكلم عن مواضعه و يقولون هذا من عند اللّه- تبديلا للحق عمّا هو عليه، كما كانوا يقولون لأتباعهم إن أوتيتم هذا فخذوه و إلا فاحذروه تحفّظا علي تسلّطهم، أولئك الذين لم يرد اللّه أن يطهّر قلوبهم، لهم في الدنيا خزي و لهم في الآخرة عذاب عظيم.

فانهم سمّاعون للكذب و أكّالون للسحت يقولون الخلاف و الباطل

و يستمعون إليه و يأكلون الأموال بتلك الأعمال الباطلة.

و مع ذلك كلّه، فالآية الكريمة تخاطب النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في شأنهم بأنهم إن جاءوك فاحكم بينهم بالحق أو أعرض عنهم، و كيف يرضون بحكمك و تحكيمك و عندهم التوراة ذلك الكتاب الذي يحكم بالحق و يحكم أنهم هم المنافقون و هم الذين لا يعرفون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، و لا يعلمون إلا التكالب علي الدنيا و حطامها و التظاهر بشئونها و ظواهرها.

و من المعلوم ان الآية الكريمة كسابقتها تدلّ علي حرمة المال المأكول من طريق إبطال الحق و الحكم بغير ما أنزل اللّه فانه سحت محرّم، و ذلك المال هو الرشوة كما أطلق عليه في الحديث الشريف، كما اشار إليه صاحب المفردات في قوله: و تسمّي الرشوة سحتا بعد تفسيره أصل السحت بالقشر الذي يستأصل (المفردات/ ص 215).

فرع:

الظاهر جواز إعطاء المال رشوة اذا توقّف عليه استيفاء الحق و إن حرّم أخذه، و الدلالة عليه علي أساس مسألة الأهم، و دوران الأمر بين الضررين.

و لا يجوز إعطاؤه أيضا اذا توقّف عليه تسريع ما علي الموظفين العاملين أداؤه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 232

فانه رشوة أيضا حيث لا يجوز له مع أنه إتلاف حق الغير غالبا في الأمور المتناوبة، نعم لا بأس بما هو متداول من الإهداء لهم قبال عنايتهم من غير تضييع حق الآخرين إن كان هدية واقعا بحيث لم يكن الأخذ و الإعطاء للعمل أو لتسريعه و لا مؤثّرا فيه بل علي أساس المجاملات في علاقاتهم العادية.

3- أكل مال اليتيم

الثالث مما يفسد المجتمع أكثر من فساد الفرد من المحرّمات هو أكل مال اليتيم، فانه من الكبائر التي يصلي مقترفه السعير و النار، و فيه آيات، هي:

الأولي- قوله تعالي:

وَ آتُوا الْيَتٰاميٰ أَمْوٰالَهُمْ وَ لٰا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَهُمْ إِليٰ أَمْوٰالِكُمْ إِنَّهُ كٰانَ حُوباً كَبِيراً. (النساء [4] الآية 2)

أمر اللّه تعالي بإيتاء أموال اليتامي و ردّها إليهم، و نهي عن تبديل الخبيث بالطيّب منها و أكل أموالهم مع أموال غيرهم، فان اختلاط مال اليتيم مع مال غيره بغير وجه شرعي هو اختلاط الحرام بالحلال، و المختلط كلّه حرام حتي يتميّز الخبيث من الطيّب و أكل ذلك المال الحرام هو الحوب الكبير.

نعم، ردّ أموالهم إليهم لا بدّ و أن يكون بعد الاختيار و الاستيناس فان الغرض الأصلي هو المحافظة علي أموال اليتامي و حقوقهم و المقصود منهم الذريّة الضعاف الذين تركوا بلا أب، فكما أن أكل أموالهم و التصرّف فيها بلا وجه شرعيّ و لا عن حق هو أكل للمال بالباطل، فان إيتاءهم أموالهم قبل

رشدهم و هم لا يعلمون صلاحهم و خيرهم و لا يميزون، فان ذلك تضييع لأموالهم و تفويت لحقّهم، و ذلك مع العلم محرّم بلا إشكال.

الثانية- قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰاميٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 233

وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. (النساء [4] الآية 10)

الآية الكريمة من جملة الآيات الباحثة حول موضوع الأموال و مراقبة حدودها و التصرّف فيها، و لا سيما من قبل الولاة المعاشرين المباشرين لها، التي منها أموال السفهاء و الصغار و الأيتام و الأوصياء و كالتصرّف في صدقات النساء فعليهم الدقّة و المراقبة، و اللّه تعالي ذو حساب دقيق و شديد و سريع، لا يخفي عليه الكثير و اليسير من درهم أو دينار، فمن اتقي حدود اللّه و لم يتجاوزها فسوف يحاسب حسابا يسيرا و بالعكس، و الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰاميٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً.

و من المعلوم دلالة الآية الكريمة علي حرمة أكل مال اليتيم، بل انها تدلّ علي أنه من الكبائر، فان أكل ذلك أكل للنار، نعم اذا لم يكن ذلك عن ظلم و تعدّ- كما اذا كان بعنوان حق التولية و كان معسرا- فلا بأس.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰي يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا. (الإسراء [17] الآية 34)

اذا كان الدنوّ و التقرّب الي أموال اليتامي منهيا عنه فكيف التصرّف فيها؟ فانه محرّم منهيّ عنه أشدّ من التقرّب إليها إلا اذا كان بوجه أحسن، كحفظ مصالح اليتامي اذا كان من طرف الوليّ و الوصي ما لم يبلغ اليتيم رشده و أشدّه، فانه بعد ذلك لا بدّ من ايتائهم أموالهم إليهم، و

الوفاء بالعهد، إنّ العهد كان مسئولا.

ثم إن ظاهر النهي هو الحرمة، و تناسب الحكم و الموضوع يقتضي أن يكون وضعيا فقط موجبا للظن، إلا ان السياق و ذكره خلال محرّمات أخري كالقتل و الزنا و التطفيف و غيرها يفيد الحرمة تكليفيا و يرشد الي ذلك بل يصرّح به قوله تعالي: إنه كان حوبا كبيرا الذي ورد في الآية الكريمة السابقة، و قريب مما ذكرنا قوله تعالي في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 234

سورة الأنعام/ الآية (152) «1» و التقريب هو التقريب.

4- الفتنة

الرابع من الكبائر التي تفسد المجتمع أكثر من الفرد هي الفتنة، أي البلاء و العذاب بين الناس و العمل بما ينتهي إليها، فانها أكبر من القتل و موجبة للكفر، و في المقام آيتان، هما:

الأولي- قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذٰابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذٰابُ الْحَرِيقِ. (البروج [85] الآية 10)

الآية الكريمة بصراحتها تدلّ علي أن الفتنة ذنب كبير أوعد مقترفها بالنار و العذاب الحريق، إلّا ان يتوب منها فان التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

الثانية- قوله تعالي:

… وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. (البقرة [2] الآية 191)

الجملة من الآية الكريمة في سياق الأمر بقتل الذين يقاتلون المسلمين و يحاربونهم بعد قوله تعالي: وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ بمعني ان ترك ذلك و المسامحة معهم فتنة لكم و عذاب، فانهم أعداؤكم يقاتلونكم الي أن يقتلوكم أو يخرجوكم من بلادكم فتكونوا لاجئين للاجانب و الكفّار، و أيّ فتنة و عذاب أشدّ و أعظم من هذا؟

و اللام إن كانت للعهد المستفاد من السياق فهو المطلوب بالملاك و يدلّ علي حرمة كل فتنة، و ان كان للجنس فالأمر ظاهر، و

لحن الآية الكريمة أصرح من سابقتها في بيان أنها كبيرة.

و لعلّ من الفتنة المحرم: السحر بما يفرقون بين المرء و زوجه و غيره و لا يبعد

______________________________

(1)- «وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰي يَبْلُغَ أَشُدَّهُ … ».

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 235

استشعار حرمته من قوله تعالي في قصة فرعون و السحرة بعد ان آمنوا بربّ موسي؛ قالوا: إِنّٰا آمَنّٰا بِرَبِّنٰا لِيَغْفِرَ لَنٰا خَطٰايٰانٰا وَ مٰا أَكْرَهْتَنٰا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللّٰهُ خَيْرٌ وَ أَبْقيٰ. (طه [20] الآية 73)

5- عصيان اللسان
اشارة

الخامس: ثم بعد ذلك كلّه عصيان اللسان و اطلاقه فيما كان عليه ان يحتبسه و يمتنعه عن الكلام من الذنوب؛ و ما فهمنا من آيات الباب انه من الكبائر إلا علي ملاك النسبيّة في الكبر و قد عرفت في صدر البحث انّه غير تام، و يطلق عليه في ظروف و شرائط الغيبة و في الاخري التّهمة و الرّمي، و في الثالثة الكذب و رابعة السّبّ و الفحش، و كلّها في عنوان عرفت انه ذنب محرّم علي اختلاف مواقعها. و في البحث آيات.

الغيبة

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لٰا تَجَسَّسُوا وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ تَوّٰابٌ رَحِيمٌ. (الحجرات [49] الآية 12)

تخاطب الآية المؤمنين و تأمرهم باجتناب كثير من الظّن، و المعلوم انه الظنّ بالغير و شئونه بحكم السياق الباحث عن روابط المؤمنين و علاقاتهم بعضهم مع بعض و النهي عن سخرية قوم من قوم عسي ان يكونوا خيرا منهم، و عن التلميز و التنابز بالألقاب فان ذلك فسوق و اثم، و من لم يتب عنه فهو من الظالمين، ثم تنهي عن الظن بالغير بالتجسّس و الاستطلاع عن زوايا عيشة الناس و ما يعملونه علي خفاء و ستر، و التذكر لما يتستّرونه من الأعمال و الأوصاف في غيابهم، فان ذلك تقطيع المغتاب و جزّ قطعة من حيثيّة أخيه المؤمن و عرضه، و هو بمنزلة أكل لحمه ميتة،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 236

فاتقوا اللّه من الذنب و توبوا إليه. انّه هو التوّاب الرحيم. أعاذنا اللّه منه و من كل ذنب و غفر اللّه لنا

و لكم ان شاء اللّه. و دلالة الآية علي الحرمة و المبغوضية مع جهة الفساد ظاهر.

و عليه فالمنكرات التي يرتكبونها جهارا من غير تستّر لا يكون ذكرها حضورا و غيابا غيبة و حراما، نعم ذكر مساوئ الآخرين حتي مع تسترهم لا بأس به في مقام التظلم و منع الظالم عن سوء عمله كما قال تعالي:

لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّٰا مَنْ ظُلِمَ وَ كٰانَ اللّٰهُ سَمِيعاً عَلِيماً.

(النساء [4] الآية 148)

فان ذلك استمداد من المؤمنين علي الظالم عليه و هو حق طبيعي مشروع و ويل لمن سمع مؤمنا ينادي و يستنصر فلم يجبه.

و من ذلك كلّه نعلم ان ذكر المساوئ و اشاعة الفحشاء حتي في الألسن و الأذكار مبغوض يخالف مصلحة المجتمع الاسلامي كعملها فان اللّه تعالي يريد سماحة الامة الاسلامية و عظمتها و عزة المؤمنين بحياتهم الاجتماعية كما يحب ذلك في الفرد منهم فعليهم استتار العيوب و استصلاحها و ابراز المحاسن و استقوائها فذكر الخلاف خلاف حتي في مقام التظلم مع العلم بعدم الناصر و عدم التأثير في النصر و لو بالنسبة الي الآتي من الزمن، و يؤثر أولا في نفس المنتقد سوءا و مع التكرار و الاصرار من غير اثر اصلاحي مثبت يورث سوء الظن و علي التدريج بكل أمر و ينتهي نعوذ باللّه بظن السوء بالاخيار و شيئا فشيئا بالخلقة و بكل شي ء و عندئذ يصعب العلاج و بشكل الصلاح أعاذنا اللّه منه «1».

التهمة

الثانية- قوله تعالي:

______________________________

(1)- و ذلك غير ما يجب ذكره لاطلاع الأمر أو قيامهم للاصلاح مما له اثر ثبوتي أو اثباتي كما اشرنا إليه في موارد كثيرة في الكتاب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 237

وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ

الْمُؤْمِنٰاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً. (الأحزاب [33] الآية 58)

تحكم الآية علي الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بألسنتهم و يقولون فيهم ما لم يكتسبوا، بأنّهم احتملوا بهتانا مبينا، و ذلك اثم بيّن و ذنب ظاهر يحسّه كل أحد.

و الانسان كائنا من كان يتأذي من ان يقال فيه من السوء و الخلاف بخلاف الواقع بل مع الواقع متسترا. فمعه غيبة و بدونه تهمة؛ و ايذاء الغير مما يدرك العقل قبحه و يحكم الشرع بانه ذنب محرّم، و قسم منه و هو رمي المحصنات- زائدا علي حرمته- فيه حدّ قد مضي الكلام عنه في كتاب الحدود، و أشدّ قبحا ان يكتسب بنفسه ذنبا ثم يرم به بريئا، قال تعالي: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (النساء [4] الآية 112).

و من المعلوم ان البهتان نسبة غير الواقع من المساوئ و المحذورات الي الغير، لا مطلقا- حسنة كان أو سيئة، كما في الكذب- و كيف كان، فذكر خلاف الواقع خلاف في الواقع مطلق نسب الي أحد أو لا و ذلك هو قول الزور المائل عن جهة الحق، و هو ما أمر اللّه تعالي الاجتناب عنه في قوله تعالي:

وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. (الحج [22] الآية 30)

و قال تعالي: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّٰاكٍ أَثِيمٍ. (الجاثية [45] الآية 7)

الكذب

الثالثة- قوله تعالي:

إِنَّمٰا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْكٰاذِبُونَ.

(النحل [16] الآية 105)

تفيد الآية ان ملاك الكذب و القول بغير الحق عدم الايمان باللّه تعالي، فان المؤمن به تعالي يطمئن قلبه و لا يري وجها لأنّ يتفوّه بالخلاف كما هو ظاهر. و من لا يؤمن به

تعالي يظن اجتلاب المنفعة بذكر الخلاف فيكذب و يقول قولا زورا،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 238

و دلالة الآية علي أصل الحرمة و المبغوضيّة ظاهر.

السب

الرابعة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ فَيَسُبُّوا اللّٰهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذٰلِكَ زَيَّنّٰا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِليٰ رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ.

(الانعام [6] الآية 108)

الآية- كما تري- في سياق بحث التوحيد و بيان آيات اللّه و علائم وجوده و قدرته و عظمته تعالي؛ و بعد ذكر شطر منها يقول قد جاءكم بصائر من ربّكم فمن أبصر فلنفسه و من عمي فعليها. ثم أمر اللّه تعالي نبيّه باتباع ما أوحي إليه و الاعراض عن المشركين و لو شاء اللّه ما أشركوا و ما جعلناك عليهم وكيلا فانك رسول و ما علي الرسول الا البلاغ. و عندئذ و في مثل الظرف يقول لٰا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ فان ذلك ينتهي الي ان يسبوا اللّه عدوا بغير علم فكان ذلك من الذي سبّ أولا فكنتم تسبون اللّه و انتم لا تعلمون. و علة الأمر ان السبّ يحرّك العواطف و يورث الغضب، فيسبّ متقابلا محبوب السّاب عن غضب و عدو بغير علم و درك و توجه، لا ان ذلك ينتهي الي ان يبحثوا عن اللّه تعالي و يتكلموا فيه بما لا يليق بشأنه- كما عن الراغب- فان ذلك لا يساعد كلمة عدوا. و كذلك زيّنا لكل أمّة عملهم فيحسبون انهم يحسنون صنعا و الي ربهم مرجعهم فينبّئهم بما كانوا يعملون.

و كيف كان تنهي الآية عن السبّ و هو كل شتم وجيع و كلام فظيع يؤذي الغير كاللعن و الفحش «1» و السخرية. و لعلّه يستفاد منه حرمة

كل قول أو فعل يؤذي الغير بغير حق سيّما في الأمور الدينية و المباحث المذهبية، فان بيان الحق في بحث ديني و إيضاح الحقيقة في كل أمر مذهبي بل علمي أو اجتماعي هو غير التصادم و التضاد

______________________________

(1)- قال الراغب: الفحش و الفحشاء و الفاحشة ما عظم قبحه من الأقوال و الأفعال.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 239

العاطفي و العصبي. فاذا تبيّن الرشد من الغي و الحق من الباطل فلا اكراه في الدين و الاعتقاد، و هو الذي يهدي من يشاء و يضلّ من يشاء، و بيده الخير و هو علي كل شي ء قدير. و لا ينافي ذلك ما علي المحاكم و القضاة و ولاة الأمر من اجراء الحدود و تطبيق الأحكام في الخارج عملا، كما فصّلناه في بحث الحكومة. اللّهم اهدنا لما تحبّ و ترضي و اصرفنا عمّا لا تحبّ و اهدنا لما اختلف فيه من الحق باذنك آمين ربّ العالمين.

هذا تمام الكلام في الكبائر من الذنوب و المحرّمات. و أما الفرار من الزحف و ان كان من الكبائر إلا انه حيث تكلّمنا فيه في كتاب الجهاد لم نذكره هنا فرارا من التكرار، فراجع. و اما سائر المحرّمات سيّما في المأكل و المشرب فسيأتي الكلام فيها حسب مواضعها ان شاء اللّه تعالي، و لكن تكميل البحث يقتضي الكلام في مسألة التوبة و المغفرة علي لسان القرآن فلنشر إليها اجمالا بعون الملك الغفار الوهاب.

فصل في التّوبة و الاستغفار «1»

لا اشكال في ان الانسان كثيرا ما ينزلق علي جادّة الحياة، مع ايمانه باللّه تعالي و اليوم الآخر، فينجذب الي الهوي و يهوي حتي يرتكب ما تأمر به نفسه الأمّارة فيعصي اللّه تعالي و هو يعلم، و بعد الفراغ عمّا اقترف من الذنب

يندم و يلوم نفسه بنفسه اللوّامة فيعترف بالاساءة و يتوب الي اللّه تعالي و يعتذر و يعزم علي ترك المعاودة و استدراك ما يمكن استدراكه فيما فرّط، و هذا هو التائب من الذنب، و اللّه تعالي يقبل التوبة عن عباده فانه هو التوّاب الرحيم، قال تعالي:

______________________________

(1)- قال علي (عليه السّلام) لقائل قال بحضرته (استغفر اللّه): ثكلتك أمك أ تدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العليّين و هو اسم واقع علي ستّة معان؛ أولها الندم علي ما مضي و الثاني العزم علي ترك العود ابدا، الي آخر كلامه الشريف- نهج البلاغة/ 417. الظاهر في بيان مراتب التوبة و أكملها بجمع المراتب الستّة و يؤيد ذلك المرتبة السادسة من الاطاعة. و لعلّ الراغب أخذ تفسيره للتوبة في مفرداته من الكلام الشريف، فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 240

قُلْ يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَليٰ أَنْفُسِهِمْ لٰا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. (الزمر [39] الآية 53)

و ظاهر آيات الباب ان لكل ذنب «1» توبة إلا الشرك. و الانسان ما دام في الحياة، له ان يرجع الي اللّه و يستدرك ما فرّط في الكبائر، و في غيرها يغفر اللّه تعالي باجتنابها. قال تعالي:

إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ … (النساء [4] الآية 116) و قال تعالي: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً. (النساء [4] الآية 31)

و لقد كان من دعوات الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الناس الي خير المطلق و السعادة، دعوته (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الي التوبة الي اللّه تعالي بالاستغفار كما في دعوات

سائر الأنبياء «2».

قال تعالي:

أَلّٰا تَعْبُدُوا إِلَّا اللّٰهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ* وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتٰاعاً حَسَناً. (هود [11] الآية 2- 3)

و قال أيضا: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَي اللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسيٰ رَبُّكُمْ أَنْ

______________________________

(1)- حتي الكفر لو قلنا انه ذنب اصطلاحا. قال تعالي: «أَ فَلٰا يَتُوبُونَ إِلَي اللّٰهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» بعد قوله تعالي: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اللّٰهَ ثٰالِثُ ثَلٰاثَةٍ..» الآية (سورة المائدة [5] الآية 73 و 74)، الا ان يقال ان ذلك هو الشرك الاصطلاحي و الكفر بالنسبة الي التوحيد و ليس أصل المبدأ تعالي و لتفصيل الكلام محل آخر.

(2)- علي حكاية القرآن الكريم: عن نوح النبي (عليه السّلام): «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً» (سورة نوح [71] الآية 10)، «وَ إِذْ قٰالَ مُوسيٰ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخٰاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِليٰ بٰارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بٰارِئِكُمْ فَتٰابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّٰابُ الرَّحِيمُ» (البقرة [2] الآية 54).

و قال هود لقومه: «وَ يٰا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِليٰ قُوَّتِكُمْ وَ لٰا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» (سورة هود [11] الآية 52).

و قال صالح لقومه: «يٰا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّٰهَ … فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» (سورة هود [11] الآية 61)، و قال شعيب بعد نصائحه و وصاياه لقومه: «وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» (سورة هود [11] الآية 90) و هكذا غيرهم عليهم السّلام.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 241

يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ يَوْمَ لٰا يُخْزِي اللّٰهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ

آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعيٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمٰانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَتْمِمْ لَنٰا نُورَنٰا وَ اغْفِرْ لَنٰا إِنَّكَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (التحريم [66] الآية 8) و قال أيضا:

وَ تُوبُوا إِلَي اللّٰهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (النور [24] الآية 31)

و كيف كان ففي البحث آيات كثيرة نشير الي بعضها اجمالا «1».

الأولي- قوله تعالي:

وَ سٰارِعُوا إِليٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمٰاوٰاتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ … (آل عمران [3] الآية 133)

تأمر الآية بالتسريع الي غفران اللّه و الجنة التي عرضها كعرض السموات و الأرض.. الجنّة التي وعد اللّه المتقين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أموالهم فِي السَّرّٰاءِ وَ الضَّرّٰاءِ، وَ الْكٰاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعٰافِينَ عَنِ النّٰاسِ، وَ الَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً و عملوا قبيحة أو

______________________________

(1)- يمكن تنويع آيات الباب الي ثلاثة:

الأول: الآمرة بالتوبة و الناهية عن القنوط و اليأس. مثل قوله تعالي:

* قُلْ يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَليٰ أَنْفُسِهِمْ لٰا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. (الزمر [39] الآية 53)

* يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَي اللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً. (التحريم [66] الآية 8)

* وَ تُوبُوا إِلَي اللّٰهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (النور [24] الآية 21)

و آيات سورة هود [11] الآيات 3 و 61 و النساء [4] الآية 106 و الممتحنة [60] الآية 12 و غيرها.

الثاني: المخبرة عن توبة اللّه علي العباد و قبوله تعالي اعتذارهم و توبتهم إليه مثل قوله تعالي:

* وَ اللّٰهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ … (النساء [4] الآية 27)

* يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ … وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. (النساء [4] الآية 26)

* إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ

أَنَا التَّوّٰابُ الرَّحِيمُ. (البقرة [2] الآية 160)

* وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّٰهَ يَجِدِ اللّٰهَ غَفُوراً رَحِيماً. (النساء [4] الآية 110)

* وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئٰاتِ ثُمَّ تٰابُوا مِنْ بَعْدِهٰا وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهٰا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. (الاعراف [7] الآية 153)

الثالث: ما يبين ان لا ملجأ الّا الي اللّه، و اللّه تعالي هو الذي يقبل التوبة عن عباده؛ مثل قوله تعالي:

* وَ الَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً … وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّٰهُ. (آل عمران [3] الآية 135)

* وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئٰاتِ. (الشوري [42] الآية 25)

* وَ إِنِّي لَغَفّٰارٌ لِمَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً ثُمَّ اهْتَديٰ. (طه [20] الآية 82)

و آيات سورة التوبة [9] الآية 104، و يوسف [12] و غيرها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 242

ظلموا أنفسهم باقتراف إثم و اكتساب ذنب ذكروا اللّه تعالي و لم ينسوا أنفسهم انهم عاصون فتابوا إليه و استغفروا لذنوبهم فعزموا علي ترك المعاودة وَ لَمْ يُصِرُّوا عَليٰ مٰا فَعَلُوا من خلاف وَ هُمْ يَعْلَمُونَ. و من يغفر الذنوب الّا اللّه أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم و جنات وَ إِنِّي لَغَفّٰارٌ لِمَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً ثُمَّ اهْتَديٰ (طه [20] الآية 82).

و من المعلوم ان اطلاق الآيات و ان كان يفيد ان لكل مؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يستغفر اللّه و يتوب إليه من كل ذنب و إثم، و هو الغافر للذنب، القابل للتوب، الرحمن الرحيم؛ إلا انّه يقيد بما عرفت من إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ؛ و استثناء الاصرار لرجوعه الي اللعب بأمر المولي و

لغويّة التوبة لا انه ذنب كبير لا يغفر، فان تكرار الذنب ليس إلا ذنب مكرر من غير زيادة علي أصل الذنب فانّ في ماهيّة التوبة عدم العود؛ و التائب عليه ان لا يعود و يعزم علي الترك ابدا، كما هو ظاهر.

الثانية- قوله تعالي:

وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلّٰا لِيُطٰاعَ بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّٰهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّٰهَ تَوّٰاباً رَحِيماً. (النساء [4] الآية 64)

الآية بعد ذكر شطر من حالات المنافقين تقول لو انهم إذ ظلموا أنفسهم بارتكابهم تلك الأعمال جاءوك لتشفع لهم عند اللّه فاستغفروا اللّه و استغفر لهم الرسول لوجدوا اللّه توّابا رحيما. و اذا كان المنافقون باستغفارهم أو شفاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و استغفاره لهم واجدين قبول توبتهم عن التواب الرحيم فكيف بغيرهم؛ و قد مضي ان قسما منهم لا يقبل توبتهم و هم كافرون.

و انت تعلم ان الآية مضافا علي المسألة المبحوث عنها، تدلّ علي صحّة الشّفاعة «1» من مثل النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و الأئمة المعصومين (عليهم الصلاة و السلام) كما

______________________________

(1)- و من المعلوم ان ذلك غير وساطتهم و شفاعتهم (عليهم السّلام) يوم القيامة بإذن اللّه تعالي و من ذا الذي يشفع عنده-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 243

تصرح بذلك الآية الاخري في قوله تعالي:

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّٰهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ. (المنافقون [63] الآية 5)

الثالثة- قوله تعالي:

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّٰهَ يَجِدِ اللّٰهَ غَفُوراً رَحِيماً.

(النساء [4] الآية 110)

بعد ما نهي اللّه تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)

عن المجادلة و الإصرار في القول و استتابة الذين يختانون أنفسهم و يستخفون ذنوبهم من الناس و لا يستخفون من اللّه مع انّه تعالي معهم اذ يبيتون ما لا يرضي من القول، و كان اللّه بما يعملون محيطا، و اللّه لا يحب من كان خوّانا أثيما.

بعد ذلك يقول من عمل سوءا من كل مكروه و قبيح يبعده عن الطهارة و السّماحة و عن اللّه تعالي- بالنهاية- أو ظلم نفسه بأن اقترف ذنبا و فرّط في إثم و لام نفسه و استغفر اللّه، يَجِدِ اللّٰهَ غَفُوراً رَحِيماً.

فالآية بصراحتها تحكم بقبول توبة من تاب و استغفر اللّه من كل ذنب و سوء.

نعم يقيد الاطلاق- كما عرفت- بقوله إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، بل الغفران لأهل الكبائر، و الصغائر تغفر باجتناب الكبائر و تكفّر برحمة اللّه و عفوه إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ و لكن اللّه يقبل التوبة عن عباده، أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقٰاتِ وَ أَنَّ اللّٰهَ هُوَ التَّوّٰابُ الرَّحِيمُ (التوبة [9] الآية 104)، وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئٰاتِ وَ يَعْلَمُ مٰا تَفْعَلُونَ (الشوري [42] الآية 25).

______________________________

- إلا بإذنه، و محل الكلام فيه المعارف و الاعتقادات.

و أصرح من ذلك قوله تعالي خطابا لرسوله (صلّي اللّه عليه و آله): «وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» في ذيل الآية من 62 سورة النور [24]. و لتفصيل البحث مجال آخر سنشير الي اجماله بعد فصل التوبة ان شاء اللّه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 244

فاللّه تعالي كما هو ذو الطول شديد العقاب كذلك هو الرحمن الرحيم الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غٰافِرِ

الذَّنْبِ وَ قٰابِلِ التَّوْبِ (المؤمن [40] الآية 2) وَ مٰا كٰانَ اللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (الانفال [8] الآية 33) وَ اللّٰهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ (النساء [4] الآية 27).

نعم، التوبة للذين يعملون السوء بجهالة من غير تفرج بذنب «1» و إصرار علي إثم و اساءة، حتي يأتيهم الموت من غير نفاق. قال تعالي:

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَي اللّٰهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهٰالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولٰئِكَ يَتُوبُ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ كٰانَ اللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئٰاتِ حَتّٰي إِذٰا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قٰالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّٰارٌ أُولٰئِكَ أَعْتَدْنٰا لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً. (النساء [4] الآية 17- 18)

و قال تعالي:

وَ إِذٰا جٰاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِنٰا فَقُلْ سَلٰامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَليٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهٰالَةٍ ثُمَّ تٰابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (الأنعام [6] الآية 54)

و قال تعالي:

سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ … الآيات.

(المنافقون [63] الآيات 5- 8)

و المستفاد ان أمر المتهاون بالتوبة أشد من الكافر باللّه تعالي فانه اذا أسلم و مات يغفر اللّه تعالي له ما سلف، و الاسلام يجبّ ما قبله، و لن تقبل توبة الذي عمل السيئات حتي اذا حضره الموت فقال اني تبت الآن فهو كالكافر الذي يموت و هو

______________________________

(1)- و الوجه ظاهر فان تسهيل الأمر علي النفس في الذنوب يستدرجها شيئا فشيئا الي ذنوب كبيرة حتي ينتهي الي الشرك و الكفر. قال تعالي: «ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا السُّوايٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اللّٰهِ» و في الحديث التفرّج بالذنب أعظم منه لما عرفت. حفظنا اللّه و إياكم من كل

ذنب.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 245

كافر لا توبة له، و كذلك المنافق المستكبر الصادّ عن سبيل اللّه بعمله، و من هذا فكرتهم و يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول اللّه حتي ينفضّوا الي آخر مقالاتهم الخائبة الخسيسة.

تذييل في خلاصة الأبحاث

فمن الفصل الأول فروع ثلاثة:

الأول: في الشرع محرّمات اقترافها إثم، و هي قسمان: ظاهرية و باطنية، لا بدّ من اجتنابها بقسميها.

الثاني: إشاعة الفحشاء كنفسها محرّمة مبغوضة بأيّ وجه كان تسبيبه: ذكرا و كتابة و نشرا بالصحف و الاذاعات المسموعة و المرئية. و ذلك كلّه من علل التكثر و الشيوع في الأمة، و محبّ الفحشاء له عذاب أليم اذا أظهر حبّه بوجه.

الثالث: مقترف الذنب يتباعد عن الربّ مضافا الي آثار عمله في الدنيا و الآخرة.

و من الفصل الثاني فرعان:

الأول: الذنوب كبائر و صغائر، و أمر الثاني أسهل، يغفر لمن اجتنب عن الأول.

الثاني: السيئات الخلقيّة لا تعدّ ذنبا في الفقه ما لم تظهر بوجه.

و من الفصل الثالث في كل واحد من الكبائر فروع:

1- فروع الشرك:

الأول: أكبر الكبائر الشرك باللّه تعالي لا يغفر بوجه.

الثاني: الارتداد بعد الشرك من أعظم الكبائر.

الثالث: المرتد لن تقبل توبته ان كان في ازدياد من الكفر. و بدونه، ففي غير الرّجل من الفطري تقبل و فيه يشكل و لا يبعد القبول.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 246

الرابع: المرتد الذي تقبل توبته أيضا اذا ارتد ثانيا ثم تاب و آمن ثم كفر و ازداد كفرا فلن تقبل توبته و لن يهدي الي سبيل الحق.

الخامس: اظهار الارتداد و العمل بما يوجب ذنب كبير ان كان عن جد و واقع، و اما تحفّظا علي الايمان و تقية فلا بأس به.

السادس: النفاق بنفسه ذنب و ان لم يكن ما يقترفه عنه ذنبا.

2- فروع الافتراء علي اللّه:

الأول: الافتراء علي اللّه ذنب كبير له مراتب بحسب المختلق و المتعلق من نفي آيات اللّه بإنسابها الي غيره و نفي الرسالة و القول بأنه يدّعي من قبل نفسه أو ادّعاء النبوّة و ان اللّه تعالي أوحي إليه بغير الحق، أو دعوي نزول الكتاب إليه بغير الحق، بل دعوي كل منصب إلهي من غير حق من الخلافة الي النيابة و الوكالة.

الثاني: القول في اللّه تعالي.. ذاته و صفاته من غير حجة منه افتراء عليه ذنب كبير.

الثالث: القول في أحكام اللّه- بغير علم- بأنّ هذا حلال و هذا حرام افتراء محرّم.

الرابع: كل تصرّف و تغيير في أحكام اللّه بلا حجة صادقة افتراء و صدّ عن سبيل اللّه و ابتغاء اعوجاج فيه و هو محرّم و ذنب كبير.

3- فروع تولّي الكفّار:

الأول: يحرم اتّخاذ البطانة من دون المؤمنين يطّلع علي خواصّ أمورهم و زوايا شئونهم كائنا من كان من الكفّار و المشركين أو أهل الكتاب بل المنافقين الذين يستهزءون بأمور الدّين، و ذلك ذنب كبير له عذاب أليم.

الثاني: لا يجوز الركون الي الظلمة و الوثوق بهم مطلقا.

الثالث: المؤمن بما هو مؤمن لا يوادّ من حادّ اللّه و خالفه بل يخالفه كائنا من كان و لو من أقربائه و فسّاق المؤمنين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 247

الرابع: حرمة تولي غير المؤمن و حرمة الوداد مع المخالفين للّه و رسوله و ان كان علي كل مؤمن و لكنه علي الزعماء و الحكّام الشرعيين و أولياء الأمور آكد و أشدّ، فان بيدهم مجاري الأمور و هم المسئولون عن شئون المجتمع الاسلامي- أولا و بالذات- ثم الناس و عموم المؤمنين- و هم المسئولون عن سكوتهم و ترك الاعتراض علي انتهاكات الحكّام.

الخامس: لا يجوز تولي الذين

غضب اللّه عليهم من المنحرفين.

السادس: اليهود من أهل الكتاب أشدّ عداوة للمؤمنين فلا يجوز توليهم بوجه.

السابع: محصل الحكم توصية العلماء الذين مجاري الأمور بيدهم و الحكّام و الأمراء بحفظ الاستقلال و الهوية الاسلامية.

الثامن: لا بأس بالعلاقات و المعاهدات و المعاملات اللازمة للتعايش الاجتماعي و العلائق المدنية مع الكفّار و المشركين مع التحفّظ علي الاستقلال في مختلف الشئون.

التاسع: المنافقون الذين اركسوا بما كسبوا لمعاضدتهم الكفّار و تواصلهم مع أعداء الدين لا يجوز توليهم و اتخاذهم بطانة بل يجب مقاتلتهم سواء كانوا بين الكفار أو بين المسلمين، فانهم بحكمهم حتي يهاجروا في سبيل اللّه.

العاشر: لا بأس بمعاشرة المنافقين الذين لا يراودون الكفار و لا يبتغون في دين اللّه عوجا مع التحفّظ علي الأساس و الأسرار.

الحادي عشر: لا بأس بتولّي من يحرم تولّيه اتقاء شرّه مع التحفّظ علي الكيان و الأسرار.

الثاني عشر: لا يجوز دعاء الخير و الاستغفار لأعداء الدين و حكّام الجور.

الثالث عشر: ملاك الاسلام في صدق الاعتقاد باللّه تعالي و باليوم الآخر و بالرسالة الخاتمة لنبيّنا محمّد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و في الايمان بالمعني الأخص فزائدا علي تلك الأصول: الاعتقاد بالعدل و الامامة علي التفاصيل المذكورة في الكتب

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 248

المختصة.

الرابع عشر: الاعتقاد بأصول الاسلام لا بدّ و ان ينضمّ إليه الاقرار باللسان و العمل بالجوارح، فالعمل بدونهما تظاهر و نفاق، كالاقرار بدون اخواته، و اما الاقرار و العمل الكاشف بظاهرهما عن الاعتقاد فهو كاف في الحكم بالاسلام ظاهرا ما لم يعلم بخلافه، و مع العلم بانتفاء الاعتقاد فنفاق أيضا.

4- فروع قتل النفس:

الأول: قتل النفس بالانتحار حرام مطلقا.

الثاني: اذا دار الأمر بين أن يقتل نفسه انتحارا أو يعمل بما يقتل نفوس كثيرة

و تهتك أعراض و تسلب أموال، فلا بأس به علي أساس مسألة الأهم.

الثالث: لا يجوز قتل الأولاد بوجه خشية املاق أو غيره.

الرابع: اسقاط الجنين قتل للأولاد محرّم يشترك في جريمته الام و الطبيب الذي يقوم بتلك العملية و عليها أو عليهما الدّية كما مرّ.

الخامس: اذا دار الأمر بين اسقاط الجنين و موت الام لا يبعد الجواز.

السادس: لا اشكال في جواز المنع عن استقرار النطفة في الرّحم بأيّ وسيلة.

السابع: لا يجوز قتل نفس محترمة، نفسه كانت أو غيرها، ولدا و غير ولد، مؤمنا و غير مؤمن إلّا بالحق كما في القصاص و الحدّ علي شرائطها.

الثامن: من قتل مظلوما و بغير حق فلوليّه سلطان في القصاص و الدية و العفو.

5- الزّنا ذنب كبير و فاحشة محرّمة مطلقا. له حدّ كما مضي في الحدود.

6- اللواط ذنب كبير و فاحشة فحشاء.

7- فروع شرب الخمر و عمل الميسر:

الأول: شرب الخمر و عمل الميسر محرّم مطلقا.

الثاني: شرب كل مسكر حتي المسحوق منه بالاستنشاق محرّم مطلقا.

الثالث: لا بأس باستعمال الخمر و كل مسكر في الصنائع و الطب في غير

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 249

الشرب.

8- فروع التطفيف:

الأول: يجب ايفاء الكيل، و التوزين بالقسطاس المستقيم.

الثاني: التطفيف في الكيل و الميزان ايفاء و استيفاء محرّم تكليفا، اضافة علي الحرمة الوضعية و اشتغال الذّمة.

الثالث: المطفف يضمن ما طفف من المال أو السلعة، و عليه الردّ الي صاحبه علي القواعد.

9- فروع الرشوة:

الأول: كل ما يؤخذ و يعطي لا عن حق لتغيير الحق بل لإيقاعه في غير محله محرّم أخذه و اعطاؤه و ذنب كبير تكليفي زائدا علي الوضع و اشتغال الذمّة.

الثاني: اذا توقف استيفاء الحق علي الرشوة لا بأس باعطائها علي أساس مسألة الأهم مع حرمة الأخذ.

الثالث: لا يجوز اعطاء الرشوة فيما اذا توقّف عليه تسريع الأمر من الموظفين دون أصل الحق.

10- فروع أكل مال اليتيم:

الأول: يجب التحفّظ علي أموال الايتام حتي يبلغوا أشدّهم و الرّد إليهم بعد الاستخبار و الابتلاء و الاطمئنان بالرشد.

الثاني: يحرم أكل أموال اليتامي بغير حق تكليفا و وضعا.

الثالث: لا بأس بأكل ما يؤخذ من أموال اليتامي بعنوان حق التولّي لأمورهم مع الافتقار بل لا معه فانه ليس بظلم.

11- عصيان اللسان و اطلاقه فيما كان عليه الامتناع و الاحتباس محرّم و لم نفهم انه كبيرة إلّا علي النسبية في الملاك فالغيبة و التهمة، و الفتنة، و الكذب، و السّب، و الفحش، و الرّمي محرمات أكيدة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 250

و يناسب في ختام كتاب المحرّمات ذكر مسألتين؛

الأولي: الأعذار:

اشارة

لا اشكال في ان المسئولية و التكليف المتعقب اطاعته و امتثاله بالثواب و معصيته و تخلّفه العقاب لا يكون إلّا بعد العقل و العلم به مع البلوغ الشرعي اذا كانت الاطاعة أو العصيان بإرادة و التفات و عن عمد. فلا شي ء عليه فيما يأتيه أو يتركه نسيانا أو خطأ أو اضطرارا أو عن حرج. و في المسألة آيات:

الأولي- قوله تعالي:

… وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ فِيمٰا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لٰكِنْ مٰا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً. (الاحزاب [33] الآية 5)

الآية و ان كانت في مسألة الظهار و نداء الأدعياء ابناء إلا انها كبري كليّة تشمل كل قول بل كل عمل، و القول بما انه عمل، و مٰا جَعَلَ اللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، فلا يتمكّن علي أمرين في حالة واحدة فيخطئ من شي ء الي آخر يتوجّه إليهما تصورا فيسبق بالقول في غير المطلوب، و ذلك قول بالأفواه لا يترتب عليه الأثر بلا قصد و نيّة و لكن الأثر علي ما تعمّدت و توجهت إليها القلوب فاتي به عن إرادة و قصد و كان اللّه

تعالي غفورا رحيما فيما ارتكبه العبد عن خطأ.

فتدلّ الآية علي نفي آثار ما يرتكبه الانسان عن خطأ مما كان يترتب عليه لو لا الخطأ في دائرة التشريع، و كذلك فيما يتركه بأن يأتي بالغير بدلا عنه خطأ فيقال تركه خطأ ثانيا، و بالعرض؛ و ان كان الانتساب الي ما فعل أولا فليس عليه شي ء حتي القضاء إلّا بدليل آخر كما في الصلاة.

الثانية: قوله تعالي:

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (في موارد ثلاثة: البقرة [2] الآية 173 و في سورة الانعام [6] الآية 145 بدون جملة فلا إثم عليه و بعبارة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و كذلك في سورة النحل [16] الآية 115 بلفظة فَإِنَّ اللّٰهَ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 251

غَفُورٌ رَحِيمٌ).

و الجملة في الآيات واردة بعد تحريم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل به لغير اللّه في سياق أصل تحليل الطيّبات من الرزق و تفيد ان الاضطرار يرفع الحرمة عن المذكورات و بالملاك عن الخبائث بل عن كل محرّم أكله و شربه بل أصل التكليف و فعليّته، و بعبارة اخري: الاضطرار يرتفع به ما كان علي الانسان لولاه من فعل أو ترك من وجوب أو حرمة أو سائر الأحكام و ما يترتب عليها في مقام الامتثال «1» لا مطلقا فان ذلك عذر في ترك ما هو واجب أو فعل ما هو حرام من غير حلية الحرام أو حرمة الحلال علي الاطلاق.

الثالثة- قوله تعالي:

… لَيْسَ عَلَي الْأَعْميٰ حَرَجٌ وَ لٰا عَلَي الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لٰا عَلَي الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ مَنْ يُطِعِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذٰاباً

أَلِيماً. (الفتح [48] الآية 17 و النور [24] الآية 61)

الآية كما تري في سياق الاشارة الي مراتب الايمان و قبول أوامر الجهاد و اتّباع الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو التخلّف عنه و الاعتذار و تفكير المخلفين و مقالتهم، و قول الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بانهم سيدعون عن قريب الي مقاتلة قوم أولي بأس شديد يقاتلونهم أو يسلمون، فان أطاعوا و جاهدوا و قاتلوهم فلهم أجر حسن بما صبروا علي معارك القتال و ان يتولوا كما تولوا من قبل عن مقاتلة الآخرين في الحروب السابقة فيعذبهم اللّه عذابا أليما.

ففي ذلك السياق و المقام يقول اللّه تعالي فيمن لا يتمكّن من القتال و لا يقتدر عليه بحسب بدنه لما فيه من العمي أو العرج أو المرض فلا يتمكن من النظر و العدو

______________________________

(1)- و لا ينافي ذلك بقاء الحكم علي العنوان الكلي في مقام الجعل و لا تقييد و لا تخصيص، و ذلك مع بقاء أصل الحكم حتي في المورد و رفع فعليته بحسب الاضطرار و لذلك تقدر بقدرها و التقييد بغير باغ و لا عاد، و يقال لا إثم عليه لا انه غير محرّم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 252

و الحركة اللازمة في المعارك أو بحسب السلاح و الوسيلة ان لا جناح عليه ما دام كذلك.

و عندنا التأمل في الآية يرشد الي رجوعها الي أمر واحد و هو اشتراط القدرة في التكليف كما هو كذلك عقلا. فمن لا يقدر علي الامتثال عقلائيا بحيث يكون التكليف عليه حرجيّا فليس عليه شي ء. نعم القدرة العقليّة في مقام الامتثال شرط امكان توجيه التكليف نحوه. فالآية بالملاك تفيد ان الحرج أيضا مما يرتفع به

التكليف بمعني عرفت من غير اختصاص بالجهاد و المقاتلة.

و لذلك جاز للأعمي و الأعرج و المريض الأكل من بيوت الآباء و الأمهات و الأخوة و الأخوات و الأعمام و العمات و الأخوال و الخالات من مراتب الرحم و من بيوت الأصدقاء و ما ملكوا مفاتحه بلا اذنهم مما لم يكن لهم ذلك بدونه لو لا العمي و العرج و المرض المانع من الاكتساب و العمل في الجملة.

و كيف كان فالآية في المقامين (الجهاد و الأكل من بيوت الأقوام) تفيد أنّ مثل العمي و العرج و المرض اذا كان بحد يوجب الضيق و الشدّة التي لا تتحمل عادة في مقام الامتثال و العمل بلا حرج، لا انهم فقط ليس عليهم التكليف أو ليس عليهم و لو لم يكن في البين حرج أو ان التكليف الحرجي ليس بمرفوع عن غيرهم، بل الملاك في النفي الحرج و هم أمثلة.

الرابعة- قوله تعالي:

لَيْسَ عَلَي الضُّعَفٰاءِ وَ لٰا عَلَي الْمَرْضيٰ وَ لٰا عَلَي الَّذِينَ لٰا يَجِدُونَ مٰا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذٰا نَصَحُوا لِلّٰهِ وَ رَسُولِهِ مٰا عَلَي الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَ لٰا عَلَي الَّذِينَ إِذٰا مٰا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لٰا أَجِدُ مٰا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ* تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّٰا يَجِدُوا مٰا يُنْفِقُونَ. (التوبة [9] الآية 91- 92)

الآية أيضا في سياق بحث الجهاد و تصرف الناس ازاءه، علي اختلاف مراتب الايمان، فيستأذن أولو الطول منهم و يقولون ذرنا نكن مع القاعدين؛ لشغفهم بحطام

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 253

الدنيا، و رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوٰالِفِ وَ طُبِعَ عَليٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لٰا يَفْقَهُونَ معني الحياة و حقيقتها، و لكن الرسول و الذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم و أنفسهم

و ايمانهم بحقيقة الأمر و ادراكهم موقعهم امام الخلقة و الخالق تعالي و في نظام الكون و روح الحياة، و جاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم و هم مشفقون.

و مع بيان مستوي الذين جاهدوا و أطاعوا اللّه و رسوله بأن لهم الخيرات و اولئك هم المفلحون و جزاء القاعدين الراضين ان يكونوا مع الخوالف بانه سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم دون المعذرين الذين لا يجدون ما ينفقون في ذلك السبيل و الضعفاء الذين لا يقتدرون علي شي ء من مشاقّ الجهاد و متاعبه، تحكم بأنه ليس علي الضعفاء و لا علي المرضي و لا علي الذين لا يجدون ما ينفقون حرج اذا نصحوا للّه و رسوله بأن كان بعضهم لبعض ناصحين للّه تعالي و رسوله لا للدنيا فكانوا من المحسنين و ليس عليهم من سبيل و اللّه غفور رحيم بالعباد و بهم.

فالآية تنفي الحرج في تركهم الجهاد بما انّهم ضعفاء أو مرضي بحسب البدل فلا يتمكنون من اداء وظائف الجهاد، أو الفقراء الذين لا يجدون مالا ينفقون في سبيل التسليح و اعداد القوي و هم راغبون في الشهادة حتي اذا قيل لهم لا أجد ما أحملكم عليه تولّوا و أعينهم تفيض من الدمع حزنا علي ذلك.

و تثبت السبيل و الحرج علي الذين ليس ببدنهم ضعف و مرض و هم متمكنون متاعا و أثاثا و مع ذلك يستأذنون أن يكونوا مع القاعدين و رضوا بأن يكونوا مع الخوالف فرارا من الموت و طلبا للراحة و طبع اللّه علي قلوبهم فهم لا يعلمون.

و الملاك كما يستظهر من الآية القدرة و الامكان نفيا و اثباتا، و الجهاد مثال مبحوث لا أنّ كل ضعيف أو مريض بأيّ درجة لا

حرج عليه في تركه التكليف و لو كان متمكّنا من الاتيان حتي في الجهاد ببعض شئونه أو ان التكليف الحرجي ليس بمرفوع عن غيرهما مع عدم القدرة بوجه آخر.

الخامسة- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 254

ذيل آية الطهارة و الوضوء و التيمم: مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. (المائدة [5] الآية 6)

و الجملة من الآية- كما تري- بعد بيان حكم الوضوء و بدله التيمم تشير الي قاعدة عامة و هي ان اللّه تعالي لا يريد في تشريعاته و أحكامه ان يجعل عليكم من حرج و ضيق بل يريد السّعة و الخير و الصلاح في كل حكم بحسبه من الطهارة في المقام و غيرها في غيره و في الكل من اتمام النعمة لعلّكم تشكرون. فليس علي العباد حرج من ناحية ما جعله اللّه علي العباد من الأحكام، اضافة الي مقتضي طبعها. فاذا كان في مقام الامتثال حسب شرائط العبد ضيق و حرج لا يتحمل عادة فلا يريده اللّه تعالي، فهو مرفوع عنه. فالآية أيضا تفيد انه ليس في دائرة المشروعات الالهيّة الحرج كما هو ظاهر.

السادسة- قوله تعالي:

وَ جٰاهِدُوا فِي اللّٰهِ حَقَّ جِهٰادِهِ هُوَ اجْتَبٰاكُمْ وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ هُوَ سَمّٰاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ. (الحج [22] الآية 78)

بعد الأمر بالجهاد حقّه و انه تعالي هو الذي اجتباكم يخبر عن قاعدة كليّة، و هي انه مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، فكل تكليف حرجي منفي عن مقام الجعل الشرعي و لا أثر له في مرحلة التشريع و جعل الحكم. فالآية تدلّ علي نفس الانشاء و التشريع بلسان الاخبار و

تدلّ علي المطلوب بأعمّ مفاد و أدلّ بيان و تؤكد العمومية بأن ذلك ملّة ابراهيم و شريعته السارية في تمام الشرائع و هو سمّاكم مسلمين من قبل.

و حاصل الآيات في الباب ان الخطأ و الاضطرار و الحرج- و بالملاك ما في طبع ذلك من النسيان و الضرر- منفي و مرفوع في الشرع أي غير مجعول، بمعني ان كل تكليف ثابت بدليله في موضعه و موضوعه مع عدم شي ء من ذلك، مرفوع بها علي قدرها؛ فان الضرورات تقدر بقدرها، فلم يشمل الجعل التكليفي ثبوتا مورد الحرج

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 255

في مقام الامتثال و العمل، و ان شمله الاطلاق أو العموم اثباتا، و تلك الأمور اعذار لا مقيدات أو مخصصات. و تفصيل ذلك كلّه في حديث الرفع المعروف في محله «1».

فروع الأعذار أربعة:

الأول: لا بأس بما يرتكبه الانسان أو يتركه خطأ بأن يأتي بشي ء آخر بدله، فلا يترتب عليه ما كان يترتب عليه لو لم يكن خطأ حتي القضاء الا بدليل آخر كما في الصلاة.

الثاني: الاضطرار الي ارتكاب ما لا بدّ من تركه و ترك ما لا بدّ من فعله، يرفع البأس فلا إثم عليه و هو غير باغ و لا عاد.

الثالث: اذا كان الامتثال و الإتيان بالتكليف حسب شرائط العبد حرجيا لا يتحمل عادة فهو مرفوع عنه بمعني انه غير مجعول عليه انطباقا، فان مقام جعل التكاليف علي العناوين غير مقام الامتثال كما فصل في محلّه.

الرابع: لا يجوز ارتكاب الأزيد مما يرتفع به الاضطرار و الحرج و غيرها، فان الضرورات تقدر بقدرها.

ختام: لا يخفي ان ظاهر الآيات من نفي الجناح في الخطأ و نفي الاثم في الاضطرار و نفي الحرج من ذوي الاعذار الضعفاء و المرضي

و من لا يجد سبيلا، و بالجملة نفي آثار التكليف في الخطأ و الاضطرار و الحرج و أمثالها اختصاصه بالأحكام المجعولة المولويّة دون ما يترتب عليه وضعا حسب الانتزاع العقلائي التي لا تنالها يد الجعل الّا بجعل منشأ انتزاعها، فعليه الضمان لو أتلف مال الغير خطأ أو

______________________________

(1)- و محصل الأمر كما عن الاستاذ الاعظم مد ظله العالي ان الاحكام الواقعية تدور مدار ملاكاتها في موضوعاتها و تنشأ عليها الأحكام المجعولة من غير تحديد بظروف الامتثال و كيفية العبد في القدرة علي الاتيان و عدمه لا دخل لها في ذلك فهو معذور عن عدم القدرة لا ان الملاك غير موجود. نعم لا يصح الطلب منه بتلك الخصوصية، و الاحكام في مقام جعلها غير ناظرة الي خصوصيات الموارد، فان مقام الامتثال غير مقام الجعل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 256

تصرّف فيه عن اضطرار، و هكذا فلا يرتفع ما يترتب عليها برفعها بل عدم جعلها في الموارد.

و علّة ذلك- كما أشرنا إليه- ان مقام جعل الأحكام غير مقام الامتثال و العمل؛ ففي الأول ليس إلا العناوين الشاملة و الكليات الصادقة علي موارد تلك الاعذار و غيرها. و في الثاني: مقام المصاديق و الجزئيات غير منظور إليها من ناحية المولي، فالقتل الخطأ مثلا محرّم يعاقب عليه حسب مقام الجعل لصدق القتل عليه كغيره إلّا ان القاتل معذور بخطئه فلا يعاقب عليه فإنّه مصداق لعنوان الخاطئ المنطبق عليه قاعدة «ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به»، فذلك مقتضي اجتماع العنوانين القتل الصادق علي العمد و الخطأ، و الخطأ الصادق علي القتل و غيره في قتل الخطأ فلا ينافي ذلك الدّية بدليله. و كذلك الأمر في الاضطرار و الحرج و غيرها من الاعذار،

و تفصيل الأمر و تحقيقه في «الاصول».

الثانية: التوسل و الاستشفاع:

اشارة

و في المقام آيات ذكرناها متفرقة في الأبواب بمناسبات اخري نذكرها هنا بذلك الملاك.

الأولي: قوله تعالي:

وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلّٰا لِيُطٰاعَ بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّٰهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّٰهَ تَوّٰاباً رَحِيماً.

(النساء [4] الآية 64)

الآية كما تري بعد ما تبيّن غرض الرسالة و انه الطاعة فيما أتي الرسل به من عند اللّه باذنه فيهتدوا الي سبيل الخير و ينتهوا الي الحق المطلق؛ تشير الي ان الظالمين أنفسهم بمخالفتهم الرسل و ترك اطاعتهم لم ينقطع عليهم السبيل، و لو انهم جاءوك و انت خاتم النبيّين فاستغفروا اللّه تعالي و طلبوا غفرانه منك بان تدعو لهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 257

و تستغفر اللّه لذنوبهم، فاستغفرت لهم اللّه تعالي لوجدوا اللّه توّابا رحيما، فانك وجيه عند اللّه و رحمة للعالمين و لكنهم بقوا في ظلمهم أنفسهم و سدّوا السبيل.

و الشرطية تدلّ علي تنجز التعليق و تحققه و ان المشروط يوجد بوجود الشرط و هو اتيان الرسول و طلب الاستغفار عن اللّه لذنوبهم. فتدلّ صراحة علي جواز توسيط الرسول و التوسل إليه و طلب الدعاء منه، كما تدلّ علي ان للرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ان يستغفر لمن جاءه و توسّل به و لو استغفر لهم الرّسول لوجدوا اللّه توّابا رحيما، و بالملاك تدلّ علي جواز الاستشفاع بالأئمة المعصومين (عليهم السّلام) بل بعباد اللّه المقرّبين الصالحين المخلصين، فانه لا دخل لرسالته (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)- و كذلك إمامتهم- في ذلك، و ما له دخل هو القرب باللّه تعالي و الوجاهة لديه علي اختلاف المراتب حسب تناسب الحكم

و الموضوع، و هو الذي بيده كل شي ء، يغفر لمن يشاء و يعذّب من يشاء.

الثانية- قوله تعالي:

… فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (النور [24] الآية 62)

الآية في مقام توضيح مستوي المؤمنين و انهم بعد الايمان باللّه تعالي و رسالة الرسول و اطاعة أوامر اللّه تعالي و نواهيه التي أتي بها الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و انهم هم الذين يستأذنونه في الأمور الاجتماعية و يطيعونه في أوامره و نواهيه الولائيّة فهم يطيعون اللّه و رسوله لما يعلمون ان له (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) زائدا علي مقام رسالته و نبوّته الذي به ينبئ عن اللّه تعالي وَ مٰا عَلَي الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلٰاغُ مقاما آخر من الولاية و الامارة، فانه أولي بالمؤمنين من أموالهم و أنفسهم فيطيعون اللّه فيما يأمر به عنه تعالي و ينبئ عنه، و يطيعونه بما انه وليّ و أمير عليهم من قبل اللّه تعالي في أوامره و نواهيه و ليس لهم العمل بشي ء من عندهم في الأمور الجامعة و شئون المجتمع.

و في هذا السياق يأمر اللّه تعالي رسوله ان يأذن لمن يشاء منهم لبعض الشئون

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 258

ثم يأمر ان يستغفر لهم فيما مضي عليهم من التخلفات فان اللّه غفور رحيم.

فاذا أمر اللّه تعالي رسوله ان يستغفر لهم و وعد بأنه لو استغفر لهم يغفر لهم اللّه تعالي فانه غفور رحيم، فلا إشكال في جواز طلب الأمر الجائز عليه منه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) كما لا إشكال في جواز قضاء حاجة المؤمن بل رجحانه له. فتدلّ الآية علي جواز التوسل به

(صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) للمؤمنين و جواز الاستغفار و الدعاء بالخير للمؤمنين، و بالملاك يجوز ذلك في طرفي المسألة بالنسبة الي الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) بل و عباد اللّه الصالحين، كما عرفت.

و لا يتوهّم ان جواز استغفار الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لهم رحمة عليهم غير جواز طلب ذلك عنه و التوسّل به، فان السياق أي الأمر بالاستغفار عقيب الأمر بالاذن حال استيذانهم يفيد أنّ الاستغفار أيضا بعد سؤال استغفارهم الرسول و طلب ذلك منه، فتدلّ علي جواز الطلب و التوسل صريحا أيضا كما لا يخفي.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّٰهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ* سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ. (المنافقون [62] الآية 5- 6)

الآية خلال بيان حالات المنافقين من انهم الذين قالوا بألسنتهم نشهد انك لرسول اللّه و اللّه يشهد علي كذبهم في الايمان بذلك و هو تعالي يعلم انك لرسول اللّه بالحق و انهم اتّخذوا اظهار الايمان باللسان جنّة لأنفسهم و أموالهم، و قد تعجبك أجسامهم و ظاهرهم و لكنهم هم العدوّ الأضر.

و عندئذ يأمر اللّه تعالي نبيّه بأن يحترز عنهم و يحذرهم، فانهم في نفاقهم و انحرافهم النفسي علي حد اذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم الرسول حتي يغفر اللّه تعالي ما مضي عنكم و يستوي لكم الطريق فتهتدون الي الخير و الحق، تولوا برءوسهم و يستكبرون عن ذلك فيصدّون علي أنفسهم السبيل الي النجاح و الفلاح.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 259

فالآية أيضا و ان كانت بصدد تعريف المنافقين، لكنها تدلّ علي جواز استشفاع

الرسول ليستغفر لهم اللّه كما تدلّ علي جواز دعاء الرسول و الاستغفار لهم اذا استشفعوا، و ترشد الي ان اللّه تعالي يغفر لهم لو استغفر لهم الرسول فانه لو لا ذلك كلّه لما صحّ ذمّهم علي ليّهم رءوسهم كما هو ظاهر.

نعم، المنافقون الذين يتولّون عن ذلك لشركهم بل كفرهم النفسي و هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول اللّه حتي ينفضّوا من حوله فلا يجوز الدعاء و الاستغفار لهم، فان ظاهر قولهم ذلك عدم اعتقادهم بالرسالة بل بالتوحيد، فانهم يفسّرون كل أمر علي موارد نظام الطبع و يظنون ان الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و من حوله يطلبون الدنيا و حطامها- نعوذ باللّه تعالي- و يتفرقون بعدم انفاقهم و لا يفقهون ان اللّه تعالي له خزائن السموات و الأرض و بيده الطبع و النفس و له الخلق و الأمر يبسط لمن يشاء و يقدر فيغني الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و المؤمنين من عنده و يحكم ما يريد.

و عندئذ فهم مشركون باللّه تعالي منكرون للرسالة و اللّه لا يغفر ان يشرك به و يغفر ما دون ذلك، و حينئذ سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر اللّه لهم (و هم مشركون) و اللّه لا يهدي القوم الفاسقين، الذين هم مشركون أو كافرون في أنفسهم متظاهرون بالاسلام في ألسنتهم. و تقدم الكلام بتفصيل في المنافقين و أقسامهم و أحكامهم ظاهريا و واقعيا في كتاب المحرّمات، و بذلك يخصص الإطلاقات السابقة و ينتج جواز استغفار الرسول و دعاء الخير للمذنبين الذين ظلموا أنفسهم إلا ان يكونوا مشركين فلا يجوز و لو كانوا أولي قربي كما يصرح

بذلك في الآية التالية.

الرابعة- قوله تعالي:

مٰا كٰانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كٰانُوا أُولِي قُرْبيٰ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ الْجَحِيمِ. (التوبة [9] الآية 112)

تخبر الآية إنشاء عن حكم من أحكام اللّه تعالي و هو انه ليس للرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 260

و كذلك ليس للمؤمنين ان يستغفروا و يدعوا بالخير للمشركين و لو كانوا أولي قربي فان المشرك لا يغفر، و القرابة النسبية لا توجب ولاية بين المؤمن و المشرك، بل لا يجوز الدعاء لكل من كان من أصحاب الجحيم، فانه الملاك المذكور صراحة، و اللّه تعالي جامع الكفّار و المنافقين في جهنّم جميعا. و تقدم الكلام في ذلك، و مصاديق المنافقين في كتاب المحرّمات «بحث في تولّي الكفّار» فراجع، و كما تري تصريح الكتاب بذلك في الآية التالية.

الخامسة- قوله تعالي:

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لٰا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ. (التوبة [9] الآية 80)

تصرّح الآية بأن اللّه تعالي لا يغفر بل لن يغفر للكفّار و المنافقين و لو استغفر لهم الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) رأفة بهم، فان كفرهم و شركهم و نفاقهم علي درجة تمنع تأثير دعاء الرسول و لو كان سبعين مرّة. و بيان ذلك بمساواة الاستغفار و عدمه و لو كان الاستغفار كثيرا مؤكدا. و نفي القبول ب «لن» - حرف التأبيد- و ذكر الملاك معقبا بقوله تعالي:

وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ أصرح بيان و أبين لسان بعدم جواز دعاء الخير للكفّار و الفسّاق و المنافقين.

و بتلك

الآيات الثلاث تخصّص اطلاقات السابقة و تنتج- مجموعا- جواز الاستشفاع عن النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) و عباد اللّه المقرّبين و التوسل بهم، و يجوز لهم الاستغفار و دعاء الخير للمؤمنين باللّه و رسوله دون الكفّار و المشركين و الفسّاق و المنافقين.

و من المعلوم ان توسيط المقربين من الأنبياء و المرسلين أو الأئمة المعصومين (عليهم صلوات اللّه أجمعين) لا ينافي التوحيد و لا يضرّ بصدق الايمان باللّه تعالي و إن الامور بيد قدرته، و ملكوتها بإرادته، فانه لا يطلب من عند اللّه شي ء مستقلا، بل يطلب منه الطلب ليكون بالاجابة أقرب لقربه اللّه تعالي لا بمعني عدم صحة الطلب

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 261

بلا واسطة، كما تري تلك الحقيقة في كثير من الأدعية المأثورة عن الأئمة المعصومين (عليهم السّلام).

اللّهم اني اسألك و أتوجّه أليك بنبيّك نبيّ الرّحمة محمّد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يا أبا القاسم يا رسول اللّه يا امام الرحمة يا سيدنا و مولانا انّا توجّهنا و استشفعنا و توسلنا بك الي اللّه و قدّمناك بين يدي حاجاتنا يا وجيها عند اللّه اشفع لنا عند اللّه …

و كذلك التعبير بالنسبة الي الأئمة (عليهم السّلام) كما تري في دعاء التوسل. و بالتأمل فيه تري انه المستفاد من الآيات، و تقديمهم بين يدي الحاجات لوجاهتهم عند اللّه تعالي و ليشفعوا لديه و يطلبوا منه تعالي من غير ان يكونوا هم المؤثرين مستقلا.

و هذا البحث غير مسألة ولايتهم تكوينا و امكان تصرّفهم فيما سوي اللّه تعالي من كل ما تجاوز عنه باذنه و إرادته. و ليس هنا محل الكلام فيه، و قد أشرنا إليه إجمالا بمناسبة

في كتاب النكاح آخر فصل المحرمات.

فروع التوسّل أربعة:

الأول: يجوز توسيط النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و الأئمة المعصومين (عليهم الصلاة و السلام) بل الصالحين و المقرّبين من العباد و استشفاعهم ليدعوا اللّه تعالي و يستغفروه حتي يغفر اللّه تعالي الذنب و يقضي الحاجات، كما يجوز الدّعاء و الاستغفار من اللّه تعالي بلا واسطة.

الثاني: يجوز لعباد اللّه الصالحين و المؤمنين ان يدعوا لأهل الذنب و يستغفروا اللّه لهم ترحما عليهم أو بعد التماسهم اذا كانوا مؤمنين و لعلّه يستحب بعده قضاء لحاجة المؤمن و طلبا لخيره.

الثالث: لا يجوز الدّعاء بالخير و الاستغفار للمشركين أو الكفار أو المنافقين من المؤمنين الذين يبتغون في دين اللّه عوجا و لو كانوا من أولي القربي.

الرابع: و حيث ان غفران اللّه تعالي أقرب الي العباد اذا استغفر لهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 262

الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو الامام (عليه السّلام) أو عباد اللّه الصالحون، فالتوسل بهم- بطبعه ما لم ينته الي ترك الطلب من اللّه تعالي مستقلا أبدا- مستحب في الجملة مع الغمض عن السنة و إلا معها فالبحث واسع النطاق و الأدلة كثيرة «1».

______________________________

(1)- قد تم البحث الي هنا بحمد اللّه تعالي و توفيقه و الساعة السادسة بعد ظهر يوم الأحد، السابع و العشرين من شهر جمادي الأولي سنة خمس و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة علي مهاجرها آلاف التحية، و الحمد للّه و له الشكر و نرجو ان يجعله اللّه تعالي ذخرا ليوم الميعاد، و يتلوه كتاب الأطعمة و الأشربة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 263

كتاب الأطعمة و الأشربة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 265

الأطعمة و الأشربة

الانسان بل كل ذي حياة، بطبعه يحسّ الافتقار الي ما يسدّ به جوعه و يروي

به عطشه، و بالتالي يحفظ له حياته و يستبقي عيشته. و بذوقه و ادراكه يختار الطيّب من المطعوم و العذب من المشروب. فكان الانسان من أول زمن بني عيشته علي بساط الأرض و بسطها يأكل من طيّبات ما خلق اللّه له في البرّ و البحر و يجتنب الخبائث.

و كذلك كان يشرب من الفرات العذب و يحترز من الملح الأجاج. فانتفاع الانسان في كل زمان من الطيّبات بصورها الطبيعية الأولية، أو مع التصرف فيها، و احترازه عن الخبائث مطلقا مما كان يستقل به العقل من غير توقّف علي تشريع و جعل من أية شريعة.

نعم حيث ان طبع الانسان و ذوقه بل و حتي ادراكه قد يخطئ في التطبيق و يتخيل ما ظاهره الطيّب ذوقا انّه طيب علي الاطلاق- و كذا في ناحية الخبائث- فالشارع يرشد بنظره الثاقب الصائب في كل شي ء الي الطيّب الواقعي أو الخبيث الحقيقي فيما اشتبه الأمر فيه، و عليه فالاطلاقات الدالّة علي تحليل الطيبات و تحريم الخبائث ارشادات الي حكم العقل، و في التفصيلات توسعة أو تضييق بحسب نفس الأمر. اذا عرفت ذلك فقد ظهر لك ان الأصل الأولي في المقام الحلّيّة و الإباحة، ما لم يردع عنه الشرع، و في الكتاب فصول:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 266

الفصل الأول: الاطلاقات

و فيه آيات؛ الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبٰاتِ وَ اعْمَلُوا صٰالِحاً إِنِّي بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.

(المؤمنون [23] الآية 51)

تخاطب الآية الرّسل الذين أرسلوا واحدا بعد واحد، لهداية الناس و إرشادهم الي سبيل الحق و الخير، بعد ذكر شطر من حكاياتهم، و تأمرهم بأكل الطيّبات و العمل الصالح إرشادا الي إباحة الانتفاع من كل طيب، و أنّه حلال بحسب الشرع لا يصحّ التزهد

فيه ترفعا، فتفيد أنّ الطيبات محلّلة في كل شريعة و ملّة بل كل مجتمع و أمّة إلّا ما يتلي عليهم. نعم حرّم اللّه علي الذين هادوا كلّ ذي ظفر أي ما ليس بمنفرج الأصابع أو له مخلب من الأنعام و الطيور، و من البقر و الغنم حرّم عليهم شحومهما الّا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. و تحريم ذلك كلّه عليهم كان جزاءهم ببغيهم، لا أنّها محرّمات بالطبع أو في شرعهم بما هو «1» فتبقي علي حلّيتها في سائر الشرائع «2».

الثانية- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ كُلُوا مِمّٰا فِي الْأَرْضِ حَلٰالًا طَيِّباً وَ لٰا تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ الشَّيْطٰانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. (البقرة [2] الآية 168)

______________________________

(1)- «وَ عَلَي الَّذِينَ هٰادُوا حَرَّمْنٰا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنٰا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمٰا إِلّٰا مٰا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمٰا أَوِ الْحَوٰايٰا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنٰاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنّٰا لَصٰادِقُونَ». (الانعام [6] الآية 146)

(2)- و يرشد الي ذلك أيضا قوله تعالي: «كُلُّ الطَّعٰامِ كٰانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ إِلّٰا مٰا حَرَّمَ إِسْرٰائِيلُ عَليٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرٰاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرٰاةِ فَاتْلُوهٰا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ» (آل عمران [3] الآية 92) فإنّه ردّ عليهم في حلّيّة مطلق الطعام لهم مستندا بالتوراة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 267

الآية الكريمة تخاطب الناس و تأمرهم بأكل ما في الأرض إذا كان حلالا طيّبا دون ما كان حراما خبيثا؛ و الدّقة فيها تبيّن مركز البحث و نقطة النقل من أنّه النهي عن اتّباع خطوات الشيطان بأكل المحرّمات من الخبائث أو الطيّبات التي حرّمها اللّه تعالي و ترك المحلّلات الطيّبات رفيعها تزهّدا و وضيعها ترفّعا، و إلّا فأصل جواز الانتفاع من الطيّب مما

لا يحتاج الي بيان.

و الحاصل: انّ الآية عندنا تفيد وجود محرّمات بين الطيّبات العرفية فتنهي عن أكلها اتباعا لخطوات الشيطان بعد الفراغ عن حليّة الطيب و حرمة الخبيث عرفا، كما تفيد الردّ علي الذين يحرّمون علي أنفسهم الطيبات تزهدا أو ترفعا؛ فلا بد و ان يكون المأكول و المشروب حلالا طيبا و هما وصفان بينهما عموم من وجه، فانه ليس كل حلال بطيب عرفا و لا كل طيّب عرفي بحلال، و ليس ذلك بمعني تبديل الأصل حتي يكون كل شي ء حراما حتي تثبت حليّته كما توهّم، بل الطيّب حلال الي ان تثبت الحرمة، و بعبارة اخري ليس كل ما استطابه الانسان بطبعه السليم الأولي بما هو انسان متجردا عن العادات و مقتضيات الزمان و المكان محللا مطلقا كما عن الجواهر (رحمه اللّه تعالي)، و ان كان ذلك هو الملاك في المشتبه ليكون مجري اصالة الإباحة كما ذكره رحمه اللّه.

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ. (البقرة [2] الآية 172)

أمر اللّه تعالي المؤمنين بأكل الطيّبات ممّا رزقهم و شكر نعمه ليزيدها عليهم و اكّد ذلك بقوله إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ، فان من يعبد اللّه فقط يعلم انه هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، و الأمر ذلك و ان كان توطئة للنهي عن المحرّمات المذكورة بعدها و لكن لا كلام في ارشاده الي إباحة المحللات من الرزق ما لم يردع عنه الشارع.

الرابعة- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 268

يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ وَ مٰا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوٰارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّٰا عَلَّمَكُمُ اللّٰهُ فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّٰهِ عَلَيْهِ وَ

اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ سَرِيعُ الْحِسٰابِ. (المائدة [5] الآية 4)

أمر اللّه تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ان يجيب عن السؤال عمّا أحلّ لهم بأنّه أحلّ لكم الطيّبات، و يضيف عليه مصداقا ان ما تصيدون بالكلاب المعلّمين بل كل صائد معلّم من الجوارح اذا ذكر اسم اللّه عليه حال ارسال الصائد أو ذبح الصيد بعد إدراكه حيّا، حلال طيّب، إن أمسكه الصائد لكم من دون نهش أو امساك لنفسه و اتقوا اللّه في تحقق تلك الشروط فإن اللّه سريع الحساب؛ و إرشاد الآية الي المطلوب أيضا ظاهر.

الخامسة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُحَرِّمُوا طَيِّبٰاتِ مٰا أَحَلَّ اللّٰهُ لَكُمْ وَ لٰا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَ كُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اللّٰهُ حَلٰالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (المائدة [5] الآية 87- 88)

تخاطب الآية المؤمنين و تنهاهم عن تحريم طيّبات ما أحلّ اللّه و الامتناع عن الانتفاع منها فان اللّه يحب أن يؤخذ برخصه كما يحبّ ان يؤخذ بعزائمه، فلم تحرّمون ما أحلّ اللّه لكم برأي و نظر؟ و الطيبات محللات إلّا أن يحرمه اللّه من عنده، و ليس لكم التحريم و التحليل من عند أنفسكم، فإنّ ذلك تصرّف في أحكام اللّه و افتراء عليه و اعتداء، و اللّه لا يحب المعتدين، فكلوا مما رزقكم اللّه من الزرع و النخل و الثمار و الفواكه و البقول و اللحوم في البر و البحر حَلٰالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ، فإنّه هو العالم بما يصلحكم و ما يفسدكم فيأمر و ينهي و عليكم الاتّباع من غير تصرف من عند أنفسكم.

فالآية ترشد الي الأصل من أنّ كل طيّب حلال

إلّا ان يحرمه اللّه تعالي.

السادسة- قوله تعالي:

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 269

آمَنُوا فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا خٰالِصَةً يَوْمَ الْقِيٰامَةِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.

(الاعراف [7] الآية 32)

الآية كسابقتها تسأل استنكارا عمّن حرّم زينة اللّه و الطيبات من الرزق و قد أحلّها اللّه للذين آمنوا بعد الأمر بالأكل و الشرب و النهي عن الإسراف و ذلك بمعني النهي عن تحريم الطيبات من الرزق برأي و نظر؛ فترشد أيضا الي ان كل طيب حلال الّا ان يحرمه اللّه تعالي، و قد مضي الكلام في الآية في مقدمة كتاب التجارة و سيأتي بحث الإسراف ان شاء اللّه.

السابعة- قوله تعالي:

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلٰالَ الَّتِي كٰانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

(الاعراف [7] الآية 157)

تعدّد الآية أوصاف النبيّ الأمّي الذي يجدونه مكتوبا في التوراة و الإنجيل و منها انه يأمرهم بالمعروف حتي يكونوا خير أمّة، و ينهاهم عن المنكر حتي يكونوا أناسا يتطهّرون، و يحلّ لهم الطيبات حتي تطيب عيشتهم و تهنأ و يحرّم عليهم الخبائث لئلا يتلوثوا فيتدرجوا الي الهوي و السقوط عن الانسانية، و يضع عنهم اصرهم و الاغلال التي كانت عليهم حتي يكونوا احرارا أمراء وارثين الأرض حاكمين عليها، كما فصلّ في محلّه. و عندئذ يصرح بحقيقة عينية و أمر لا يقبل التخلف و هو ان التقدم و الرّقي و الفلاح و النجاح في

الدارين لا يكون إلّا للذين اتبعوا هذا القائد العظيم و النبيّ الكريم فنصروه معظمين ايّاه و اتبعوا أوامره و كتابه النور الذي أنزل إليه و يكون معه، نعم، الحق هو هذا، و ان اولئك هم المفلحون لا الذين يتبعون كل ناعق و يميلون مع كل ريح. و عندنا السّياق يدلّ علي ان حليّة الطيبات و حرمة الخبائث

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 270

كان في كل شريعة بل في طبيعة كل انسان كما في اردافه و أعداله المذكورة.

الثامنة- قوله تعالي:

فَكُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اللّٰهُ حَلٰالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ. (النحل [16] الآية 114)

الآية- كما تري- تأمر بأكل ما رزقه اللّه من الحلال الطيّب و بشكر النعمة تفريعا علي ما حكاه من قصّة قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها من كل مكان فكفرت بأنعم اللّه فأذاقها اللّه لباس الجوع و الخوف بما كانوا يصنعون من كفرهم بأنعم اللّه؛ فلا تكفروها أنتم و اشكروا نعمة اللّه، مؤكدا ذلك بقوله ان كنتم ايّاه تعبدون. فان شكر النعمة و حمد المنعم من آثار العبودية و أساس البحث في الآية، و ان كان ذلك، إلا انها جعلت حليّة الطيّب مفروغا عنه فترشد الي المطلوب.

التاسعة- قوله تعالي:

فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ حَلٰالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(الانفال [8] الآية 69)

الآية خلال آيات الجهاد و جهاته تصف الغنائم بانها محللات طيّبات فكلوها هنيئا مريئا؛ فكأنّها تطبيق علي كلّي مفروغ عنه و هو إباحة كل طيّب و حليّته، اضف الي ذلك كلّه قوله تعالي: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (البقرة [2] الآية 29) و قوله تعالي: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرٰاشاً وَ السَّمٰاءَ بِنٰاءً وَ أَنْزَلَ مِنَ

السَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرٰاتِ رِزْقاً لَكُمْ … الآية (البقرة [2] الآية 22)، و قوله تعالي: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنٰاكِبِهٰا وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ (الملك [67] الآية 15).

فان ذلك كلّه يفيد ان الأرض و ما فيها مما ينبت و يخرج أو ما يستخرج خلق للناس و لهم الانتفاع به كيف شاءوا في شتات و جهات حياتهم؛ و منها الأكل و الشرب، فترشد الي الأصل بمفهوم أوسع و ان الانتفاع مما حول الانسان حلال ما لم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 271

يحرمه اللّه تعالي، و الأمر في قوله تعالي: كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ لٰا تَطْغَوْا فِيهِ مقدمة للنهي، فلا يرتبط بالبحث و ان كان لا يخلو عنه اشعار و لنذكر الآية في بحث الإسراف ان شاء اللّه.

الفصل الثاني: خصوصيات المطعوم

الكلام الآتي في خصوصيات المطعوم و المأكول حال بيان اباحته و الانتفاع به؛ و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ إِلّٰا مٰا يُتْليٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّٰهَ يَحْكُمُ مٰا يُرِيدُ. (المائدة [5] الآية 1)

الآية بعد الأمر بايفاء العقود و العهود و العمل بالأحكام و الحدود، تحكم بحليّة الأنعام البهائم الّا ما يتلي عليكم فانها تطلق اصطلاحا علي ما عدا السباع و الطيور من الحيوانات اللائي في نطقهن بهم فيصعب دركه، و أصواتهنّ مبهمات فهنّ بهائم، فالأنعام محللات إلا ما يتلي عليكم من المحرّمات منها دون ما حرّمته الجاهليّة من البحيرة و السّائبة و أمثالهما، كما في الآية؛ قال تعالي مٰا جَعَلَ اللّٰهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لٰا سٰائِبَةٍ وَ لٰا وَصِيلَةٍ وَ لٰا حٰامٍ وَ لٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

يَفْتَرُونَ عَلَي اللّٰهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لٰا يَعْقِلُونَ (المائدة [5] الآية 103).

فان أهل الجاهلية كانوا اذا ولدت الناقة عشرة أبطن شقّوا اذنها فيسيّبونها من غير منع عن حوض أو علف في كل مرعي فكانوا يعتقدون ان لها احتراما، و لا يذبحونها و ما جعل اللّه لها ذلك، بحيرة كانت أو سائبة التي ولدت خمسة أبطن يرعي من غير منع، و كذلك الوصيلة و الحام من افتراءات الذين كفروا و ما هو من دين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 272

اللّه، فان الشاة التي ولدت، اخوها ذكرا أو انثي، و ان وصلت أخاها و لكن ليس ذلك منعا عن الذبح و تحريما. فالأنعام محللات طيّبات و لا أثر لخرافات جاهلية علي التحريم علي أساس الولد و اللبن كما بيّن الهنود للبقر علي سطح أرفع و بملاكات أقبح. كما لا وقع لما عن بعض من الرّحمة و العطوفة علي الحيوانات و تألمهم حال الذبح و شددوا ذلك التقريب الي الاستشهاد بأجهزة الانسان و ان حياته قائمة علي أكل النباتات و اللبنيات و الفواكه دون اللحوم، و يردّه نظام الخلقة و نواميس الطبيعة و حتي أجهزة الانسان، و صرّح بذلك أهل الفن و قد هدانا اللّه بحمده الي الحق فأوضح الحلال من الحرام، و صرّح بإباحة أكل اللحوم من الأنعام و الطيور و الاسماك- كما عرفت- و سيأتي ان شاء اللّه.

الثانية- قوله تعالي:

وَ الْأَنْعٰامَ خَلَقَهٰا لَكُمْ فِيهٰا دِفْ ءٌ وَ مَنٰافِعُ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ. (النحل [16] الآية 5)

تصرّح الآية بأن اللّه تعالي خلق الأنعام لانتفاع الناس منها بأيّ وجه، فلهم فيها دف ء و منافع كثيرة و منها يأكلون. فترشد الي إباحة الأنعام بلحومها و شحومها و … الا ما يتلي عليكم

فان اللّه تعالي هو الذي أنزل من السماء ماء منه شراب و منه شجر فيه يسيمون (أي الناس). و ينبت لهم به الزرع و الزيتون و النخيل و الأعناب و من كل الثمرات و من كل ما ذرأ للناس مختلف الألوان؛ و الآيات بصراحتها كما تري تفيد إباحة الاستمتاع من كل ما ينبت من الأرض زرعا و ثمارا و ما يدبّ عليها أو يعيش علي بساطها من البهائم و الحيوانات برّا و بحرا إلا ما يتلي عليكم.

الثالثة- قوله تعالي:

لِيَشْهَدُوا مَنٰافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّٰهِ فِي أَيّٰامٍ مَعْلُومٰاتٍ عَليٰ مٰا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعٰامِ فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا الْبٰائِسَ الْفَقِيرَ. (الحج [22] الآية 28)

الآية ضمن آيات الحج، و الإشارة الي مسألة الذبح و القربان و جواز الأكل منه و لزوم الإطعام علي البائس الفقير، تشير الي ان رعاية حرمات اللّه و أحكامه خير

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 273

و أنفع مطلقا؛ و في مثل الظروف تقول:

وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعٰامُ إِلّٰا مٰا يُتْليٰ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. (الحج [22] الآية 30)

فترشد الي حلّية الارتزاق و الانتفاع من الأنعام في سياق الأمر باجتناب الرجس و قول الزور، و قد مرّ الكلام فيها اجمالا في المحرّمات.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّٰاتٍ مَعْرُوشٰاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشٰاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّٰانَ مُتَشٰابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشٰابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذٰا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصٰادِهِ وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. (الأنعام [6] الآية 141)

الآية أيضا تصرّح بأن مواليد الطبيعة و محصولات الخلقة التي أنشأها اللّه تعالي و خلقها للانسان من فواكه الجنّات و ثمارها معروشات مرتفعات و

غير معروشات منبسطات علي الأرض و ثمر النخل و الزرع من التمر و الغلّات و الحبوبات و البقول مختلف الألوان و كذلك الزيتون و الرّمان و غيرها. و عندنا الغرض إباحة كل ما يستطيبه الانسان و يتقوي به حياته و يسدّ به جوعه أو يهنّئ به عيشته «1» و ان كان في انتخاب الأمثلة نكتة من الأنفعية أو الخواص الأخفي، فله ذلك كلّه من غير اسراف إلا ما يتلي عليه من المحرّمات.

الخامسة- قوله تعالي:

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعٰامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّٰا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خٰالِصاً سٰائِغاً لِلشّٰارِبِينَ* وَ مِنْ ثَمَرٰاتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنٰابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَ أَوْحيٰ رَبُّكَ إِلَي النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبٰالِ

______________________________

(1)- و يؤيد ذلك السياق من تحليلهم و تحريمهم من عند أنفسهم في الآيات السابقة حتي ينتهي الي قوله تعالي:

«قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلٰادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا مٰا رَزَقَهُمُ اللّٰهُ افْتِرٰاءً عَلَي اللّٰهِ قَدْ ضَلُّوا وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ». (الانعام [6] الآية 140)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 274

بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمّٰا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرٰاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهٰا شَرٰابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ فِيهِ شِفٰاءٌ لِلنّٰاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

(النحل [16] الآيات 66- 69)

تفيد الآيات ان اللّه تعالي أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها بإجراء الأنهار و إنبات النبات و الأشجار ليعيش عليها الانسان و كل ذي حياة بسهولة.

و في الأنعام و خصوصيات حياتها آيات من جهات شتّي سيّما جهاز اللبن الخالص السائغ للشاربين الخارج من بين فرث و دم، خلقه اللّه لكم، و

كذلك ثمرات النخيل و الأعناب بأقسامها و طعومها المختلفة ففيها بألوانها و طعومها و أشكالها و حركاتها نحو البقاء و الحياة آيات، و كذلك العسل المتّخذ من النحل مختلف الألوان فيه شفاء للناس، فان ذلك كلّه مع آيات في مختلف شئون الحياة خلق للناس و لهم الانتفاع منها، و قد قلنا ان في انتخاب المذكورات نكات راجعة الي امتيازات فيها اكتشف بعضها بالتجربيات الحاصلة في الأعصار اللاحقة كما تعلم، و في آخر الآيات أشير الي مسألة للبحث عنها محل آخر من ان اللّه تعالي هو الذي فضّل بعض الناس علي بعض في الرزق و ليس لهم التسوية أ فبنعمة اللّه يجحدون؟

السادسة- قوله تعالي:

وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّٰاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنّٰا عَليٰ ذَهٰابٍ بِهِ لَقٰادِرُونَ* فَأَنْشَأْنٰا لَكُمْ بِهِ جَنّٰاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنٰابٍ لَكُمْ فِيهٰا فَوٰاكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ* وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنٰاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ* وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعٰامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّٰا فِي بُطُونِهٰا وَ لَكُمْ فِيهٰا مَنٰافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ.

(المؤمنون [23] الآيات 18- 21)

الآيات بعد بيان خلق الانسان و مراتب تكامله الأولي ثم تكامل جنينه في المراتب اللاحقة و استعداده لقبول روح اللّه و إنشاء خلق آخر، و بعد بيان أنّ المؤمنين منهم هم الذين في صلاتهم خاشعون، و للزكاة فاعلون، و لفروجهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 275

حافظون، اولئك هم المفلحون. و بعد بيان ان المسير الطبيعي للانسان و الحركة الي الموت ثم الحياة بالبعث في يوم القيامة، و عندئذ يمنّ اللّه تعالي علي الانسان بخلق النظام العلوي الذي يتمكّن به ان يعيش و يستمتع من الحياة في ظلاله بقوله لَقَدْ خَلَقْنٰا فَوْقَكُمْ سَبْعَ

طَرٰائِقَ وَ مٰا كُنّٰا عَنِ الْخَلْقِ غٰافِلِينَ و انا نحن انزلنا لكم من السماء ماء و قدّرنا لكم تقديرا لا زائدا و لا ناقصا لئلا تختل شرائط الحياة فانزلناه بقدر و أسكنّاه في الأرض في تخوم البرّ و عروق الجبال و في البحار و الأنهار، و لو شئنا هلاككم فانّا علي ذهاب به لقادرون، فتجفّ الأرض و تنقطع الحياة التي هي كل شي ء من الماء، ثم أنشأنا لكم بذلك الماء المنزل المضبوط الكافي جنّات من نخيل و أعناب و خلقنا لكم من تلك الجنّات فواكه كثيرة تأكلون منها و كذلك شجرة تخرج أولا من طور سيناء تنبت بالدهن و صبغ للآكلين، و هو الزيتون المذكور في الآيات الاخري ردف الفواكه «1» و انّ لكم في الأنعام لعبرة لمن يعتبر من جهات شتّي سيما فيما نسقيكم ممّا في بطونها من اللبن السائغ للشاربين الجامع لمواد كثيرة تغذّي الانسان و تقويه.. سهلة التناول عذبة الطعم، و كذلك تأكلون من لحوم الأنعام و شحومها و كل ما تستطيبونها إلّا ما يتلي عليكم و لكم فيها منافع كثيرة أخري حيا و مذبوحا كما ترون ما تصنعون من أنواع اللباس و الاثاث من جلودهم و شعورهم و أدبارهم و …

فالآيات- كما عرفت من صراحتها و سياقها- ترشد الي ان اللّه تعالي خلق العالم و ما فيه للانسان حتي يتمتع و ينتفع مما يشاء كيف يشاء إلّا ان يمنعه اللّه عن شي ء و يحدّه لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشيٰ و يشكر نعمة ربه و يعبده و يخلص له فيفلح.

______________________________

(1)- و في ذلك المقام أيضا قوله تعالي: «وَ نَزَّلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً مُبٰارَكاً فَأَنْبَتْنٰا بِهِ جَنّٰاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ* وَ النَّخْلَ بٰاسِقٰاتٍ لَهٰا

طَلْعٌ نَضِيدٌ* رِزْقاً لِلْعِبٰادِ» (ق [50] الآية 9- 11). تصرّح الآية بأن تنزيل الماء المبارك كثير المنفعة الذي يعطي المحصود من الحبوب كالحنطة و الشعير و الارز و … و الثمرات الباسقات كالنخل و الطلع النضيد بعضه فوق بعض و في النهاية احياء الأرض، كل ذلك كان رزقا للعباد. فتدلّ المفعول له في الآية علي إباحة الانتفاع الكلي و انه الأصل إلا ما خرج بدليل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 276

السابعة- قوله تعالي:

وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهٰا وَ تَرَي الْفُلْكَ مَوٰاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

(النحل [16] الآية 14)

تصرّح الآية أيضا بأن اللّه تعالي هو الذي سخّر البحر بقدرته فقيّده بحدود و قوانين بإرادته و لطفه فتهيأ لنماء الحيوانات الخاصة و صار ساحة لاعاشتهم، و تنازعهم، و تكاملهم، و تنوّعهم، و لهم في كل مرتبة شرائط خاصة بها يتمتعون و يعيشون، من الثقل و الحرارة و النور و نفوذ الهواء و غيرها، و لا سيما الاسماك بأنواعها الكثيرة و أشكالها المختلفة.. كل ذلك للانسان ليأكل منه لحما طريّا و يستخرج منه حلية يلبسونها و تجري فيها الفلك مواخر و يبتغي منه فضل اللّه تعالي من كل شي ء يمكن الانتفاع منه؛ من مائه و صيده و حليته و ملحه الي البترول المدّخر في أعماقه، اذا اقتدر الانسان ان يستخرجه؛ و كل ذلك لعلّ الانسان الذي هو لحبّ الخير لشديد و لربّه لكنود يشكر ربّه و نعمه فيعبده و يخلص له، و لكن هيهات و الانسان خلق ضعيفا هلوعا، و للخير منوعا، و اذا مسّه الشرّ جزوعا، يطغي اذا كشف عنه الضرّ و رأي انه استغني

و قد يمرّ كأن لم يدع ربّه و لم يعرفه.

الثامنة- قوله تعالي:

وَ مٰا يَسْتَوِي الْبَحْرٰانِ هٰذٰا عَذْبٌ فُرٰاتٌ سٰائِغٌ شَرٰابُهُ وَ هٰذٰا مِلْحٌ أُجٰاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهٰا وَ تَرَي الْفُلْكَ فِيهِ مَوٰاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. (فاطر [35] الآية 12)

تخبر الآية عن البحرين بأنهما لا يستويان أحدهما عذب فرات ماؤه سائغ شربه، و الآخر ملح اجاج لا يساغ شربه، كل منهما علي قوانين خاصة لا يختلطان، و هما يلتقيان، و في كل منهما تنشأ و تعيش ذوات الحياة أشدّ و أعظم ممّا في البرّ و منها الأسماك علي أنواعها الكثيرة، فتأكلون منهما لحما طريا و تستخرجون حلية

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 277

تلبسونها، و تجرون فيهما و عليهما الفلك مواخر تبتغون فضل اللّه مما فيها و عليها و علي السواحل بنقل الأمتعة من قطر الي قطر و التعاون علي العيش و الحياة الاجتماعية الانسانية حتي معرفة اللّه و العلم و الدين، و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و يمنعه عمّن يشاء، و كل ذلك لعلّكم تشكرون نعمة اللّه و لا تفسدون في الأرض برا و بحرا، فان ذلك بأيدي الناس و من كسبهم، لا من خلق اللّه و غرض الوجود، و قد ظَهَرَ الْفَسٰادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِي النّٰاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم [30] الآية 41).

و الآيات كما تري و كسابقتها ترشد الي إباحة الانتفاع ممّا في البحر و أكل لحومه طريّا كما هو الغالب.

التاسعة- قوله تعالي:

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعٰامُهُ مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّٰارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مٰا دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.

(المائدة [5] الآية 96)

الآية ضمن آيات الحج و بيان أحكام الحاج و المعتمر المحرم تفرق بين صيد البرّ و البحر بأن الثاني حلال للمحرم متاعا له و للسيّارة دون الأول فانه حرام عليه ما دام محرما، فلا بأس به بعد التقصير و خروجه عن الإحرام، كما يجوز الانتفاع به في غيره متاعا و أثاثا، و هو ارشاد كما عرفت في أصل الحلية و لا يبعد استفادة حرمة صيد البحر أيضا حال الإحرام للتجارة لا للمتاع له و للسيّارة من قيد المتاع فتأمل.

العاشرة- قوله تعالي:

وَ اللّٰهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعٰامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهٰا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقٰامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوٰافِهٰا وَ أَوْبٰارِهٰا وَ أَشْعٰارِهٰا أَثٰاثاً وَ مَتٰاعاً إِليٰ حِينٍ. (النحل [16] الآية 80)

الآية- كما تري- تفيد جواز مطلق الانتفاع عن الأنعام و استخدامهم في مطلق شئون الحياة و من جميع اجزائهم بعد الذبح لحما و جلدا و صوفا و شعرا و وبرا بل

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 278

و دما في غير الأكل و ما يشترط فيه الطهارة. و المستفاد الزائد هنا جواز الانتفاع من غير المأكول أيضا اثاثا و متاعا ما لم يمنع عنه الشرع. وَ اللّٰهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّٰا خَلَقَ ظِلٰالًا وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبٰالِ أَكْنٰاناً وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرٰابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرٰابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (النحل [16] الآية 81).

فالآيتان ترشدان الي الأصل الأوسع الأولي و هو إباحة الانتفاع من كل ما خلقه اللّه تعالي إلّا ما يتلي عليكم من المحرمات.

الفصل الثالث: المحرّمات

و لنعرف في الفصل مصاديق ما يتلي عليكم المذكور في أكثر الاطلاقات ليجتنب عنها و يبقي الباقي علي الاباحة الاصلية؛

و في الفصل آيات:

الأولي- قوله تعالي:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ، وَ الْمُنْخَنِقَةُ، وَ الْمَوْقُوذَةُ، وَ الْمُتَرَدِّيَةُ، وَ النَّطِيحَةُ وَ مٰا أَكَلَ السَّبُعُ إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ وَ مٰا ذُبِحَ عَلَي النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلٰامِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلٰا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجٰانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(المائدة [5] الآية 3)

تحصي الآية المحرّمات اخبارا عن الحكم في مقام الانشاء و انّها الميتة عرفا و هو كل ما مات حتف انفه، و الدّم، و لحم الخنزير بل و شحمه و كل شي ء منه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 279

- و اللحم ذكر تغليبا «1» - و ما أهلّ به حال ذبحه بغير اسم اللّه سواء ذبح باسم صنم أو بلا اسم اصلا «2» و المنخنقة التي خنقت نفسها حتي ماتت بعمد أو بدونه، و الموقوذة التي ضربت بحجر أو خشب حتي ماتت، و المتردية التي سقطت من علوّ فماتت، و المنطوح من حيوان آخر فمات منه، و ما اصطاده السبع و أكل منه قطعة جزأ عنه فمات الّا ان تدركوه حيّا فتذبحوه، و كذلك يحرم ما كان يذبح علي النصب و هي الأحجار المنصوبة حول البيت تعظيما أو حول الأصنام تقرّبا إليها، و الأزلام، فان ذلك كلّه فسق أكله و انحراف عن الطريق المتعادل في ذبح الحيوان للانتفاع منه من غير ايذائه. و حرمة ذلك كلّه في حال الاختيار و القدرة علي الاجتناب، و من اضطر في مخمصة بحيث توقف حياته علي أكل شي ء منها من

غير تجانف لاثم فانّ اللّه غفور رحيم. و اما الجملتان الواقعتان بين الآية فنعتقد ان محلهما هو هذا، كان ذلك بترتيب النزول أو بأمر النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و لكن الرمز الأساسي في مثل هذه الآيات «3» و تعيين محلّها حفظها عن أيدي المخالفين حتي ينتهي الأمر الي الأزمنة التي تنجو عن الخطر الخطير (الاسقاط و التحريف). و بعد فنفس الآيات بلسانها الطبيعي تنادي و ترشد الي المطلوب الحقيقي الأصلي، كما تعرف من المبحوث عنها ان اليومين الذين يئس الذين كفروا من دين الاسلام و أكمل فيه الدين و النعمة لا يرتبطان بتحريم أشياء و تحليلها من الحيوانات، فان ذلك كيف يوجب انقطاع رجاء الكفّار عن المقابلة مع الاسلام؟ و كيف يكون كمال الدين و تمام النعمة بذلك؟ و قد أشبعنا الكلام فيها في رسالتنا (حول آيات الولاية) فراجع.

الثانية- قوله تعالي:

______________________________

(1)- نعم لا بأس بالانتفاع به في غير الأكل مما لا يشترط فيه الطهارة كما يشير إليه ذكر اللحم.

(2)- الحاق ذلك جمعا مع قوله تعالي: «و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه»، كما سيأتي ان شاء اللّه و إلا فالتعبير لا يشمله كما لا يخفي.

(3)- آية التطهير و آية الولاية، و المبحوث عنها آية الاكمال.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 280

إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّٰهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(البقرة [2] الآية 172) و (النحل [16] الآية 144).

الآيتان بلسان واحد في المقامين بعد الأمر بأكل الطيّبات من الرزق و شكر النعمة تعد المحرّمات بأداة الحصر النسبي لا محالة لوجود محرّمات اخري

بآيات اخر كالخمر فتحصي الميتة و الدّم، و لحم الخنزير، و ما أهلّ به حال ذبحه لغير اللّه- سواء باسم صنم أو بلا اسم اصلا «1» - و ذلك كلّه كما عرفت في حال الاختيار و اما فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

الثالثة- قوله تعالي:

قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَليٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (الأنعام [6] الآية 145)

أمر اللّه تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ان يقول للناس ان الأشياء علي الحليّة و كلّ شي ء في الأرض و السماء، في البر و البحر، يحل الاستمتاع منه إلّا أشياء معدودة، و ذلك ببيان صريح من اني لا أجد فيما أوحي إليّ من أحكام اللّه و حدوده من حرامه و حلاله ممنوعا محرّما علي طاعم يطعمه إلّا ما أشير إليه من الميتة و الدّم و لحم المسفوح السائل الخارج عن جسد الحيوان دون الباقي فيه بعد التذكية «2» و لحم الخنزير فانّه رجس لا بدّ من الاجتناب عنه بلحمه و شحمه و جلده و كل شي ء منه «3» و كذلك ما أهلّ به لغير اسم اللّه فلم يسمّ اللّه حال تذكيته عمدا و فسقا فان ذلك كلّه

______________________________

(1)- قد عرفت ان الحاق ذلك القسم بمقتضي الجمع مع قوله تعالي: «و لا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه» كما سيأتي.

(2)- و دون غير السائل كما في البق و البرغوث و أمثالهما و ان امتص من انسان أو

غيره مما له نفس سائلة.

(3)- نعم لا بأس بالانتفاع به في غير ما يشترط فيه الطهارة كاسقاء الزرع بجلده مثلا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 281

حرام أكله و طعمه. و الحكم ذلك حال الاختيار و اما من اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه و لا بأس به فان ربّك غفور رحيم، و اما نجاسة الميتة و الدم و الخنزير بعد حرمتها فمبتن علي رجوع الضمير الي مستثني كما لا يبعد «1». نعم تعليل التحريم بالرجس يفيد حرمة أكل كل نجس و ان جاز سائر انتفاعاته كما هو ظاهر إثارة غفران الذنب، و المقترف لتلك المحرّمات في المخمصة غير متجانف لاثم فانه لا نهي حال الاضطرار فلا يكون عاديا مذنبا و ان كان مقتحما فيما به حرّم تلك المحرّمات علي قاعدة الأهم و دفع الأفسد بالفاسد، و اختيار الأقل حال دوران الأمر بين الضررين فلا إثم و لا بغي، و عندئذ فتعبير الغفران علي اللطف و العناية لتحقق مبغوض ما في الجملة و ان لم يصح التكليف و النهي عنه كما هو ظاهر.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَأْكُلُوا مِمّٰا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّٰهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّيٰاطِينَ لَيُوحُونَ إِليٰ أَوْلِيٰائِهِمْ لِيُجٰادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ. (الانعام [6] الآية 121)

تنهي الآية صريحا عن أكل ما لم يذكر اسم اللّه عليه حال ذبحه و تذكيته، سواء ذكر عليه اسم آخر من صنم و غيره أو لم يذكر اصلا، فلا تنحصر الحرمة بما اذا أهل به غير اللّه و ذكر اسم غيره تعالي كما قد يتوهّم من تعبير الاهلال به بغير اللّه المذكور في الآيات السابقة ليحلّ غير المذكور عليه غير اللّه- ذكر اللّه

أو لم يذكر- و قد عرفت ان المقصود من الاهلال به لغير اللّه أيضا ناحية الاثبات و انه لا بدّ من ذكر اللّه فيحرم ما لم يذكر اسم اللّه عليه كما صرّح به المقام، و ذلك أي التذكية بغير اسم اللّه أو أكل ما لم يذكر اسم اللّه عليه فسق، و الثاني هو المبحوث عنه و ان كان الأول سببا له، ثم تؤكد الآية الأمر بأن الشياطين ليوحون الي أوليائهم و تابعيهم و يوسوسون فيهم علي تأثير ذكر اسم اللّه تعالي في حليّة اللحم و حرمته فيجادلونهم في مثل تلك

______________________________

(1)- و قد أشرنا إليه في كتاب الطهارة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 282

الأحكام لينكروها فيتركوها و يتّبعوا الشيطان، فان اطعتموهم و اتبعتم ما يوحي هؤلاء المشركون و يقولون علي خفاء و ستر في الردّ و الانكار لأحكام اللّه تعالي فانكم اذا مثلهم فاتّبعوا اللّه و أطيعوه و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه- أدركتم وجه ذلك بعقولكم الناقصة أو لم تدركوه- و كيف تنكرون تأثير ذلك و لا وجود في العالم بلا أثر، فان كل مرحلة من الوجود حتي اللفظي منه له أثر حسب صدوره و مصدره، و ما يصدر له في وضع خاص كما عرفته في تأثير العقود في الحلية و الحرمة و ان رضاء الباطن من غير كاشف غير كاف. و قد أثبت العلم الطبيعي «1» تأثير توجهات النفس و الكلمات المتبادلة بين الزوجين حال المباشرة علي النطفة و الولد الحاصل منهما، و العالم بأجمعه واحد مرتبط بعضه مع بعض من غير انفكاك دون ان يتمكن شي ء من الخروج عنه، و لا يمكن الفرار من حكومته تعالي، فكيف الجرأة علي نفي تأثير

لفظ- و هو وجود في العالم- علي شي ء و العالم مرتبط، و النهي عن أكل ما لم يذكر اسم اللّه عليه يكشف عن أثر كما لا يخفي طريق ادراكه في الجملة.

ثم أكد الأمر في الآية الاخري السابقة عليها، قال تعالي: وَ مٰا لَكُمْ أَلّٰا تَأْكُلُوا مِمّٰا ذُكِرَ اسْمُ اللّٰهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلّٰا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ (الانعام [6] الآية 119) فالحرام اللازم تركه ما لم يذكر اسم اللّه عليه في غير الاضطرار، فلم لا تأكلون من الحلال و تحرمونه علي أنفسكم بالأهواء وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوٰائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ، فان التجاوز عن أحكام اللّه تعالي اعتداء سواء كان في ناحية تحليل الحرام أو تحريم الحلال لا فرق، أعاذنا اللّه منه.

الخامسة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (المائدة [5] الآية 90)

______________________________

(1)- في علم يعبّر عنه ب «علم الجينات» يبحث عن النطفة و مراحلها الأولية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 283

تخاطب الآية المؤمنين و تخبرهم بحقيقة طبيعية هي ان الخمر بطبعه و الميسر كذلك و الانصاب و الأزلام رجس قذر تتنفر عنه الطباع و العقول لا يعمله الّا الشيطان فانه من عمله. و اذا كان الأمر كذلك، فاجتنبوه و احترزوا عنه لعلّكم تفلحون بالائتمار للأوامر و التناهي عن المحرّمات الارجاس، و الشيطان يريد ان يوقع بينكم العداوة و البغضاء و يصدّكم عن ذكر اللّه فيأمركم بأمثال الخمر و الميسر فاذا سكر عقولكم و ستر و تغالبتم في الميسر، تباغضتم و تضاربتم فتعاديتم، و بذلك اعرضتم عن ذكر اللّه، و من أعرض عن ذكر اللّه

فان له معيشة ضنكا، و الأمر اذا كان كذلك فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ مجتنبون أو متّبعو الشيطان فيضلكم و يرديكم الي الخزي و الخسران.

و من المعلوم دلالة الآية بلسانها الخاص و سياقها المخصوص علي شدّة الحرمة و كبر الاثم في كل من الخمر و الميسر مطلقا.

السادسة- قوله تعالي:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا وَ يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ … (البقرة [2] الآية 219)

أمر اللّه تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ان يجيب عن السؤال حول الخمر و الميسر بأن فيهما اثما كبيرا لا يقترفه المؤمن باللّه و اليوم الآخر، و ان كان فيهما منافع أيضا ان استخدما علي وجه صحيح من الانتفاع من الكحول في الصنائع أو التداوي بغير شرب، كاعدام الجراثيم، و من الميسر في المسابقات النافعة للمتسابقين فكرا و جسما بل للأمّة كما فصّل في محلته. و مع ذلك كلّه اثمهما أكبر و أعظم خطرا الي جانب منفعتهما، فيحكم عليهما بالاجتناب علي الاطلاق، لئلا يبتلي الناس باسم المنافع باثم كبير. و مع ذلك يصرح بجواز الانتفاع في غير الشرب و ما يشترط فيه الطهارة.

و المستفاد من الآيتين انهما كانا محرّمين بطبعهما في كل شريعة و الاثم الطبيعي الموجود فيهما الغالب علي نفعهما مما لا يقبل التخصيص بزمان دون زمان

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 284

و قوم دون قوم و قليل أو كثير، فان النار و الذنب قليلهما كثير، فلا يتم ما يتوهم من التدرج في التحريم، كما لا يتم ما عن (سيد قطب) في (ظلال القرآن) من شرب نفر من الصحابة، و عن علي (عليه السّلام) في مقام بيان شدّة التنفير

عنه لو وقعت قطرة من الخمر في بئر فبنيت مكانها منارة لا أؤذن عليها، و لو وقعت في بحر ثم جفت و نبت فيه لم ارعه.

و مع الأسف فهما في بلادنا الاسلامية لا يعدان بنظر الحكّام منكرا بل يرغّبون فيها الشبّان عملا. فعلي سبيل المثال في البلدة التي ليست بعيدة من قزوين و قريبا من رشت في شمال ايران و نحن مبعدون إليه لا توجد مكتبة يباع فيها كتاب؛ و يباع و يشرب علي رءوس الاشهاد الخمر و الفقّاع. و لقد رأينا فيها ميّتا شيّعه المسلمون و قد مات علي مشربه تسابقا في الشرب. و لعنة اللّه علي مروجيه الصهاينة و مؤيديهم، و قطع اللّه أيدي الظلمة الفجّار عن بلاد المسلمين ان شاء اللّه بنصر منه تعالي و بأيدينا.

خاتمة فيها [خمسة] مسائل

اشارة

الأولي: مقتضي اطلاقات حليّة صيد البحر و أكل اللحم منه طريّا جواز الأكل من كل حيوان بحريّ و ان كان الغالب في الصيد السمك فانه الذي يصاد بسهولة في الأزمنة المختلفة. و الخارج بالسّنة السمك الذي لا فلس له، و غاية الاحتياط الحاق المماثل للمحرّمات البريّة من الكلب و الخنزير مع انهما و اشباههما نوع سمك غير ذي فلس فيبقي الباقي تحت الحليّة مما امكن اصطياده في زماننا هذا بالأجهزة الصناعية، و ليس بسمك و لا مماثل للمحرّمات البرية من ذوات الجثة العظيمة إلا ما اخرجته السّنة صريحا، فلا يخلو ما في كلمات الاصحاب (من انه لا يؤكل من البحر إلّا سمكه المفلس) من التأمّل و النظر، مع انهم (رضوان اللّه عليهم) افتوا بحليّة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 285

الروبيان و ليس هو بسمك «1» و لا مماثل للمحللات البريّة، و البحر طهور ماؤه و حلال ميتته،

لو لم نقل بانصراف الميتة في الآيات المحرّمة الي البري حتّي يتم استدلال الشيخ (ره) في (الخلاف). و غاية الأمر لزوم الذبح فيما كان من ذلك له نفس سائلة بما هو المتعارف فيه عرفا لو قلنا بانصراف ميتته الحلال الي السمك بالغلبة «2».

الثانية: يحرم كل ما يستخبث بالطبع و ليس طيبا و لو كان من اجزاء المذبوح المأكول اللحم كالطحال و القضيب و الانثيين و الفرج و المشيمة و المثانة و النخاع و الغدد و الفرث و أمثالها.

و لا يقال: ملاك الاستخباث ان كان طبع العرف العادي فنري خلاف ذلك عنهم في مثل الانثيين، و ان كان عرف المتشرعة فلا بد من دليل علي الحرمة غير الاستخباث و لا دليل إلا روايات ضعاف.

فانه يقال: الظاهر استخباث طبع الانسان بما هو عنهما و عمّا يتعلق بهما من آلات التناسل، و لا نعرف عرفا يستطيبهما للأكل حتي الذين يستحلونهما فانهم علي خفاء و تستّر كما يشربون الخمر، مع روايات في الباب لا يصح الاعراض عنها.

الثالثة: قوله تعالي:

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ … (المائدة [5] الآية 5)

______________________________

(1)- و العجب ما عن السيد (ره) في الوسيلة الحاقة بالسمك موضوعا و انه من جنسه، و الالحاق حكما أصحّ، و لقد شافهناه حينما كنّا مبعدين الي ميناء جنوبي (بوشهر)، و كذلك مشويّة علي ما كان متداولا، و هو بالخراطيم اشبه من السمك، و من آيات اللّه تذلل حيوان بحري جسيم قبال ذلك، مع انه يخاف و يحترز عنه أكثر البحريات فانه يدخل فمه يتغذي مما بين اسنانه فيستريح. لقد نقلنا ذلك عن فلم تلفزيوني رأيناه في سجن البلدة.

(2)- و مسألة تأثير

اخلاق الحيوان في الانسان بأكله، و لعلّه الملاك في تحريم السباع البرية و بعض الطيور بل في مثل الخنزير زائدا علي ضرره الجسمي الممكن ازالة شي ء منه باعدام الجراثيم بالحرارة و غيرها ليكون ذلك ملاك الحرمة في غير السمك المفلس من البحريات بحث علمي طبيعي لا فقهي يصحّ الاتكاء عليه في الفتوي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 286

صراحة الآية انّ طعام أهل الكتاب اليهود و النصاري و من ألحق بهم حلّ للمسلمين، كما ان طعام المسلمين حلّ لهم، و الطّعام- لغة- كل ما يتناول منه طعم، كما عن المفردات- سواء كان علي طبعه الأول أو بعد التصرّف فيه بطبخ أو مزج أو خلط أو غيرها- و عن الجوهري: الطعام ما يؤكل و ربّما خصّ به البر و إرادة قسم خاصّ كالبرّ في لغة أهل الحجاز.

و استعماله في لغتهم أو في الحديث النبوي المشهور انه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أمر بصدقة الفطر صاعا من الطعام أو صاعا من الشعير، في البرّ لا يوجب الاختصاص مع ما في افادة الحديث ذلك من الفطر لإمكان مقابلة غير البرّ الاعم منه مع الشعير.

و كيف كان فالظاهر ان الحكم قائم علي أساس المقابلة و بملاك الاضافة و الانتساب، كما عن صاحب الزبدة (رحمه اللّه). فكما لا يستفاد من حليّة طعام المسلمين لهم حليّته حتي فيما اذا كان نجسا بالعرض، الاجتناب عند أهل الكتاب أو كان ممّا يحرّمون أكله، فكذلك حليّة طعامهم لنا لا تدلّ علي حليته حتي من جهة النجاسة لو قلنا بانهم مشركون «1» و هم نجس، أو من جهة ما يستحلونه كالخمر و الخنزير. فكل ما صدق عليه طعامهم ما دام لم يكن من المحرّمات عندنا

كالخمر و الخنزير، أو متنجسا بالعرض كما لو قلنا بطهارتهم. و لا يبعد و لم يلحقه نجاسة اخري، أو لم يباشروه مع الرطوبة علي القول بنجاستهم فهو حلال لنا لا بأس بأكله و شربه و بيعه و شرائه كحليّة طعامنا لهم ما لم يكن مما يحرّمونه أو نجسا بالعرض لازم الاجتناب لديهم.

فان قلت: نفس كون الشي ء بعد حليّته ذاتا ملكا للغير لا يحتمل ان يكون ملاكا

______________________________

(1)- كما يؤيد ذلك قوله تعالي: «وَ قٰالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّٰهِ وَ قٰالَتِ النَّصٰاريٰ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّٰهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ يُضٰاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قٰاتَلَهُمُ اللّٰهُ أَنّٰي يُؤْفَكُونَ». (التوبة [9] الآية 30) و عندنا دلالة الآية علي شركهم مشكل مع دلالتها علي نقص في توحيدهم لو كان القول بالأبنية علي الحقيقة و مشابهة قولهم لمقالة الكفّار غير مقالتهم و للبحث محل آخر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 287

للحرمة مع اذن صاحبه و اجازته أو تمليكه حتي يمن اللّه تعالي المسلمين بحليّته.

قلت: نعم، نفس ذلك لا يوجب حرمته ذاتا و لكن يمكن ان يوجب حرمته عرضا كحرمة المغصوبة و الموطوءة و الجلالة، و حيث لا بدّ للمسلم التجنب عن المشركين و المعاندين فانهم اعداء اللّه و أعداء من يعبد اللّه، فيحتمل في حقهم ذلك علي ملاك التجنب المطلق؛ و أهل الكتاب سيّما اليهود أعداء المسلمين لا بدّ من اجتنابهم، كما فصلناه من قبل، فقد منّ اللّه تعالي علي المسلمين بحليّة طعامهم من تلك الجهة، و ان التجنب عنهم لا يوجب حرمة طعامهم فأحلّ لكم الطيبات و طعام الذين أوتوا الكتاب و لا ينافي ذلك الحرمة من جهات اخري ذاتية أو عرضية كما عرفت.

الرابعة: عدما عرفنا ان الأصل حليّة كل

شي ء يمكن ان يتغذي أو يتقوي به الانسان و يطعمه إلا ما أخرجه الدليل و عرفنا أيضا المحرّمات الذاتية بعناوينها الكلية؛ فليعلم ان الحلال قد يحرم عرضا كما اذا تنجس أو كان تصرفا في ملك الغير بغير اذنه شفاها أو فحوي «1» أو كان اسرافا؛ و حيث ان الاولين معلومان فلنختم الخاتمة بالكلام في الأخير.

الاسراف

الاسراف: هو التجاوز عن الحدّ سواء كان في الأموال أو في غيرها. قال تعالي:

وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بعد قوله تعالي وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ أَعْميٰ. قٰالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْميٰ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قٰالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيٰاتُنٰا فَنَسِيتَهٰا وَ كَذٰلِكَ الْيَوْمَ تُنْسيٰ. وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ

______________________________

(1)- كالأكل من البيوت التي ملكتم مفاتحه أو بيوت الاقرباء و الاصدقاء، و قد صرّح به قوله تعالي: «وَ لٰا عَليٰ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبٰائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهٰاتِكُمْ (الي قوله) أَوْ مٰا مَلَكْتُمْ مَفٰاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتٰاتاً» (سورة النور [24] الآية 61) فان ذلك كلّه لإذن الفحوي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 288

أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآيٰاتِ رَبِّهِ وَ لَعَذٰابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقيٰ. (طه [20] الآيات 124- 127)

فان صراحة هذه الآيات هي من استعمال الاسراف في غير المال؛ و كذلك قوله تعالي: قُلْ يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَليٰ أَنْفُسِهِمْ لٰا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ.

(الزمر [39] الآية 53)

و في الأموال خصوصا قال تعالي: كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ لٰا تَطْغَوْا فِيهِ. (طه [20] الآية 81)

فان الطغيان في الأكل و التجاوز عن الحدّ من الاسراف و هو يوجب الهويّ و السقوط

عن رحمة اللّه و يحلل غضب اللّه علي مقترفه، و لكنه غفّار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدي، و قال تعالي: يٰا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الاعراف [7] الآية 31)، و قال تعالي: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذٰا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصٰادِهِ وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الأنعام [6] الآية 141)

و التبذير أخذ من تفريق البذر و نشره في الأرض، و يطلق علي اضاعة المال «1» و تفويته- سواء كان في المؤن و المحاويج- فان تفريق البذر في الأرض اضاعة ظاهرا في بدو النظر. و عليه فكل تبذير اسراف و لا عكس، قال تعالي: وَ آتِ ذَا الْقُرْبيٰ حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لٰا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كٰانُوا إِخْوٰانَ الشَّيٰاطِينِ (الاسراء [17] الآية 26- 27).

و يقابلهما التقتير أي التقليل في الانفاق علي العيال و غيره عن حدّه اللازم المتعارف. قال تعالي- في مقام توصيف عِبٰادُ الرَّحْمٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَي الْأَرْضِ هَوْناً: وَ الَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كٰانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوٰاماً (الفرقان [25] الآية 67). أي لم يتجاوزوا زيادة و لم يقتصروا نقيصة و انفقوا علي حدّه

______________________________

(1)- و سنشير إليه في مسألة الرزق في القرآن.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 289

المتعارف.

و كيف كان، فالمبحوث عنه في المقام هو الاسراف في الأموال، و التجاوز عن حدودها الشرعية و العقلائية في المئونة، لا سيما في الأكل و الشرب. و المستفاد من آيات الباب: ان المطلوب شرعا؛ التوسيط و التعديل بين الاسراف و التقتير حتي لا يكون تبذيرا أيضا بل أمر بين

الأمرين. قال تعالي خطابا لنبيّه الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم):

وَ لٰا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِليٰ عُنُقِكَ وَ لٰا تَبْسُطْهٰا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً* إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كٰانَ بِعِبٰادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (الاسراء [17] الآية 29 و 30)، و كذلك قوله تعالي: وَ الَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كٰانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوٰاماً (الفرقان [25] الآية 67)- كما عرفت- فان دلالة الآيات علي المطلوب من رعاية التوسيط و التعديل في صرف المال ظاهر. و اما التجاوز عنه الي أحد الحدين: الاسراف و الزيادة أو التبذير و النقيصة فمحرم مبغوض و اتّباع لخطوات الشياطين و بعد عن رحمة اللّه، فيحلّ غضب الرحمن إلّا من تاب. قال تعالي: وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ في المقامين- كما عرفت- و النهي ظاهر في الحرمة، و عدم الحبّ تأكيد لا القرينة علي الكراهة، و كذلك ما يوجب اخوة الشيطان محرّم لا مكروه «1». أعاذنا اللّه من التجاوز عن حدوده تعالي و الابتلاء بمعاصيه و محرّماته في الأموال و غيرها ان شاء اللّه.

الرزق «2»

اشارة

الخامسة: الرزق و هو ما يتغذي به الانسان و يقوي به حياته و يستبقيها ماديا و معنويا دنيويا و اخرويا. و من المعلوم ان ذلك لا يكون إلّا بيد الذي يحيي و يميت و هو علي

______________________________

(1)- و لقد أشرنا الي ذلك في مقدمة كتاب التجارة علي نحو الاختصار.

(2)- عن المفردات: الرزق يقال للعطاء الجاري تارة- دنيويا كان أم اخرويا- و للنصيب تارة، و لما يصل الي الجوف و يتغذي به تارة. انتهي، و الظاهر ان المعني ما هو الساري في جميع تلك الموارد كما ذكرنا.

فقه

القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 290

كل شي ء قدير.

فاللّه تعالي هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ يرزق من يشاء بغير حساب في قبضه و بسطه في تقتيره و تكثيره.. يبسط الرزق لمن يشاء و يقبض.

و الانسان بنوعه علي بسيط استحق الارتزاق مما عليها من مائها و كلائها و مما يخرج عنها و ما ينبت عليها من الثمرات من غير تفاوت بين صنف و صنف أو فرد و فرد في الاستحقاق ابتداء «1». قال تعالي: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرٰاشاً وَ السَّمٰاءَ بِنٰاءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرٰاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلٰا تَجْعَلُوا لِلّٰهِ أَنْدٰاداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 22)

و قال تعالي: يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ كُلُوا مِمّٰا فِي الْأَرْضِ حَلٰالًا طَيِّباً وَ لٰا تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ الشَّيْطٰانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (البقرة [2] الآية 168) و غير ذلك من الآيات التي ذكرناها من قبل.

إلّا انه باختلاف مناطق الأرض و ما فيها، و كذلك اختلاف ما يخرج عنها و ينبت عليها من النجوم و الأشجار أو يدبّ عليها من دابّة اختلافا طبيعيا يقتضيه العوامل الكثيرة المنبثقة من نواميس عديدة، المتسق و حركات عالم الطبيعة بإرادة الخالق المتعال.

و أخيرا باختلاف مستوي القدرة و العمل بل الفكرة و العلم العامل في العمل في أفراد الانسان الناشئ من تركب ما ذكرنا من العوامل، مع ما اختاره من العمل الموجب لتشكل خلق و طبع فيه أو العادة المتقاربة و المتناسبة أكثرا، مع ما احاطه.

و لست أقول ان الانسان بكيفياته مخلوق و مصنوع لما احاطه و لا مسئولية، بل هو محصول للخلقة و القدرة المحيطة (إرادة اللّه تعالي) حسب استعداداته المتناسبة مع شرائطه الماديّة.. مسئول عمّا عرض عليها باعمالها المختارة المؤثّرة

بحكم الطبيعة

______________________________

(1)- و سياق الآيات و موردها يبيّن الحكم في الأكل و الشرب أيضا بعد شمول الاطلاق.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 291

و الخلقة من أحكام اللّه تعالي التكوينية علي ما فصّل في محله «1».

و كيف كان لا اشكال في اختلاف انسان مع انسان بعد اتحاد الجميع في الأصول الانسانية النوعية، و لا يمكن تساوي شخصين من جميع الجهات؛ و كل ذلك ينتج التفاوت الفاحش و اختلاف الظاهر فيما يعمله و مقدار العمل و ما يستحقه بعمله حسب تأثيره في سعادة المجتمع و قيمته حال التبادل و التقابل اللازم في العيش التعاوني الانساني.

و من ذلك تتفاوت امكانات استمتاعات الاشخاص حقوقا في العمل، و ذلك الاختلاف علي التعادل هو الحق و العدل دون ما اذا كان من بغي البعض علي الآخر و من الظلم بسؤال النعجة الي النعاج. و العدل غير مساواة الناس امام الاحكام و الحدود و الحقوق بحدودها علي السواء من غير تفاوت و تفاضل.

و أنت تعلم ان نتيجة تطبيق جميع قوانين الاسلام في مختلف الشئون الاقتصادية العملية «2» و التجارية و السياسية و … هو التعادل الاجتماعي بأعدل وجه دون التباعد الحاصل من الرأسمالية الغربية بين الطبقات و دون الكبت و تدمير الاستعدادات و الجمود الميكانيكي الحاصل من الاشتراكية الشرقية في الشيوعية، و غيرهم «3» فان اقتصاد الاسلام أعدل المسالك في مسألة كيفيّة الاستمتاع مما علي الأرض بل مما في الطبيعة للانسان، و تفصيل الكلام خارج عن وضع الرسالة، و ما استرسل فيه القلم كان مقدمة للمسألة. و كيف كان، ففي المقام آيات يمكن تنويعها الي قسمين؛ الأول: ما يصرّح بأن اللّه تعالي فضل البعض علي بعض بوجه عرفت؛ و ليس للفاضل ان يصير

مفضولا أو يري نفسه أشرف و أعلي. الثاني: ما يشير الي

______________________________

(1)- و تكلمنا حول المسألة في رسالة باللغة الفارسية طبعت تحت عنوان (سازندگي محيط).

(2)- سيما الانفاقات الواجبة من الخمس و الزكاة و الكفارات و المستحبة حسب المناسبات كما فصل في محله فكيف الايثار و تقديم الاخر مع افتقار نفسه ابتغاء لوجه اللّه تعالي.

(3)- مع ان فيهم أيضا طبقات و تفاضل بنحو آخر كما في مسالكهم المختلفة و استمتاع حكّامهم بأكثر من الشعب بنحو فاحش.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 292

ذلك. و في كليهما الأمر بيد اللّه تعالي.

فمن القسم الأول آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لٰا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِليٰ عُنُقِكَ وَ لٰا تَبْسُطْهٰا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً* إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كٰانَ بِعِبٰادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.

(الاسراء [17] الآية 29- 30)

ينهي اللّه تعالي رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) عن انفاق جميع ما في يده حتي يصير محدودا مغلولا تختل مدارات عيشته الظاهرية، فان الانفاق علي الفاقدين الفقراء لا بدّ و ان يكون من الزائد عمّا تدور عليه ضروريات العيشة المتعادلة المتناسبة «1».

ثم يذكر علّة ذلك بأن اللّه تعالي هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء فيعطيه كثيرا و يوسع عليه أو يقتر عليه فانه- تعالي- خبير بعباده يعلم ما يصلحهم و ما يفسدهم بصير بما تراه- يا رسول اللّه- من افتقارهم الظاهري.

و الآية، و ان كانت تخاطب الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) إلا انها بالكبري المذكورة فيها تدلّ علي انه ليس علي الواجد ان يجعل نفسه فاقدا لما يري من فقد الآخرين و فقرهم فان ما يراه ظاهرا لا يعزب عن علم اللّه تعالي فهو يبصره، بل عليه الانفاق

في الجملة و اللّه تعالي يقبض و يبسط و هو علي كل شي ء قدير.

الثانية- قوله تعالي:

وَ اللّٰهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَليٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَليٰ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوٰاءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اللّٰهِ يَجْحَدُونَ. (النحل [16] الآية 71)

تصرح الآية ان تفضيل البعض علي البعض في الرزق كان بيد اللّه تعالي و ليس للفاضل ان يردّ رزقه علي الآخر المملوك له أو كالمملوك في عدم القدرة و الفقر حتي

______________________________

(1)- و عندنا الجملتان في الآية الاولي راجعتان الي أمر واحد فانه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لم يكن ممن يترك الانفاق رأسا، و الغرض التعديل في الانفاق بين التقتير و الاسراف.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 293

يتساويا بل عليه الانفاق من فاضل رزقه لا أصله، فإن ردّ أصله إليه طلبا للتساوي جحد بنعمة اللّه تعالي و انكار لتفضيله ايّاه عليه و اللّه ذو فضل عليم.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلٰائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مٰا آتٰاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقٰابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. (الانعام [6] الآية 165)

مركز ثقل الآية و متّكاها- بعد الفراغ عن أصل ترفيع اللّه تعالي بعض الناس علي بعض فيما آتاهم- هو انه تعالي جعلهم خلائف الأرض، و ان كان ابتلاؤهم في تلك العطايا لاختبارهم فيها كيف يصنعون بها من الانفاق في سبيل اللّه و طريق الحق علي مبادئ العدل و الانصاف أو البذل في الطغيان و العصيان، فانه تعالي كما هو الغفور الرحيم كذلك سريع الحساب، إلا انها تدلّ علي ان التفاضل بيد اللّه تعالي و انه- في الجملة- من العدل و لا يلزم بل لا يمكن المساواة في الرزق

إلا ان علي الفاضل الإنفاق في الحق و العدل لئلا يتبدّل التفاضل بالتباعد فالتعاند فالتقاتل و يتبدّل الطيّب من العيش بالخبيث. اللّهم وفّقنا للعمل بما أمرتنا به.

الرابعة- قوله تعالي:

أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنٰا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ رَفَعْنٰا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ. (الزخرف [43] الآية 32)

سياق الآية و ان كان في بيان مشاجرات الناس مع الأنبياء و مع الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) إلا انها أشارت خلال البحث الي رحمة الرب تعالي و ان ما يعطيه الناس من الأموال و الزخارف لا يكون خيرا و رحمة لهم مطلقا، بل قد يكون عذابا و وبالا.

و حيث ان الكفار كانوا كثيرا ما يستعظمون أنفسهم بأموالهم و ما يمدهم اللّه من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 294

البنين، استحقارا لمستوي الأنبياء العظام في المجتمع المادي «1»، يسأل اللّه تعالي- استنكارا: أهم يقسمون رحمة الرّب بين العباد من الأموال و غيرها؟ لا ليس كذلك، بل نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و رفعنا بعضهم فوق بعض بالأموال و البنين فيتخذ المرفوع الموضوع سخريا «2» و يتوهّم ان ذلك بنفسه خير له، مع ان رحمة الرّب الشامل للموضوع بوجه آخر و للمرفوع اذا استخدمه في طريق الحق خير لهم مما يجمعون من الدنيا و زخرفها و لا ينفقونها في سبيل اللّه علي طريق الحق و العدل فيصدهم عن السبيل.

ثم ينتهي الكلام الي ان تقسيم المعيشة مع ذلك التفاضل هو من التعادل الاجتماعي و هو لصالح وحدة الأمّة و صيانة ارتباطهم، و الكرامة بينهم؛ و لو لا ذلك لَجَعَلْنٰا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ

فِضَّةٍ وَ مَعٰارِجَ عَلَيْهٰا يَظْهَرُونَ* وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوٰاباً وَ سُرُراً عَلَيْهٰا يَتَّكِؤُنَ* وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذٰلِكَ لَمّٰا مَتٰاعُ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (الزخرف [43] الآيات 33- 35) و ليعلم ان ذلك كلّه متاع الحياة الدنيا ليتمكّنوا من المعيشة و يتمتعوا، و الآخرة عند ربك للمتقين.

الخامسة- قوله تعالي:

______________________________

(1)- و هم علي وضع: «إِذٰا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اللّٰهُ قٰالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشٰاءُ اللّٰهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلّٰا فِي ضَلٰالٍ مُبِينٍ» (يس [36] الآية 47)، يقولون ذلك ردّا علي الحق لا ايمانا به.

(2)- قال الراغب: و السخري (بالضم) هو الذي يقهر فليستسخر بإرادته، و فسّر الآية المبحوث عنها به ثم قال و السخرية و السخرية لفعل الساخر و فسر قوله تعالي: «فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتّٰي أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ» (المؤمنون [23] الآية 110)، به علي وجه، و كذلك قوله تعالي: «وَ قٰالُوا مٰا لَنٰا لٰا نَريٰ رِجٰالًا كُنّٰا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرٰارِ أَتَّخَذْنٰاهُمْ سِخْرِيًّا» (ص [38] الآية 64). و ما فهمنا وجه الفرق حتي انه قرأ سخريا بالضم في المقامين و معرب الكتاب بالكسر في الآخرين. و كيف كان، فالظاهر في المقام مع ملاحظة السياق ما ذكرنا من انه فعل الساخر و هو الأقرب و بدون ملاحظته و حمله علي مقالة المفردات يرجع الي مسألة استخدام المرفوع الموضوع في المشاغل و اجارته نفسه أو عمله ليدور مدار الحياة و المعامل بأيدي العمال الساعين تحت دساتير المؤجرين و ليس ذلك امضاء مسلك الطبقات الرأسمالية و الشرقية و حفظ تسلّط الغاصبين فان الكلام فيها بعد رعاية سائر الحدود كما أشرنا إليه اجمالا من قبل و ليس هنا

محل تفصيله فتأمّل.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 295

وَ لٰا تَتَمَنَّوْا مٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَليٰ بَعْضٍ لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللّٰهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً.

(النساء [4] الآية 32)

النهي عن تمني ما فضّل اللّه تعالي بعض الناس علي بعض في مختلف الشئون من الذكورة و الأنوثة و جعله الرجال قوّامين علي النساء «1» الي التفاوت في السهم و النصيب في الارث و غيره، و من الحقوق الي التفاوت فيما اكتسبوا و ما اكتسبن من الأموال بل و الطاعات، ارشاد الي قبول ذلك و الرضا به و التوجيه الي انّه بيد اللّه تعالي و انه علي أساس المصالح العامة و العدالة المحيطة الكاملة. و ليكن بدل التمني السؤال من فضل اللّه تعالي ليرزقه و ينفق عليه من سعته في الدنيا و الآخرة، فان الفضل بيد اللّه تعالي يؤتيه من يشاء و اللّه واسع عليم (آل عمران [3] الآية 72).

هذا كلّه في القسم الأول.

و من القسم الثاني آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لَوْ بَسَطَ اللّٰهُ الرِّزْقَ لِعِبٰادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَ لٰكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مٰا يَشٰاءُ إِنَّهُ بِعِبٰادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ. (الشوري [42] الآية 27)

صراحة الآية في ان قبض اللّه تعالي و بسطه الرزق من الناس و عليهم كان علي مصلحة عريقة من سلامتهم و سعادتهم مع قدرته تعالي علي ان يبسط عليهم كل البسط إلا انّهم يبغون في الأرض لو بسط اللّه عليهم، و ان الانسان ليطغي ان رأي و توهّم انه استغني، و لا يمكن ان يستغني و هو ممكن «2»، و حيث ان اللّه خبير بالعباد

______________________________

(1)- قال تعالي: «الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَي النِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ

عَليٰ بَعْضٍ … » الآية (النساء [4] الآية 34)

(2)- قال تعالي: «وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لٰا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللّٰهُ يَرْزُقُهٰا وَ إِيّٰاكُمْ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (العنكبوت [29] الآية 60)، فاللّه تعالي الرازق دابة لا تحمل رزقها كيف يغفل عن الانسان؟ و الانسان هو الذي يغفل عن اللّه تعالي و ينساء بما رزقه ثم يوم القيامة هو تعالي ينساه و يقال له «و كذلك اليوم تنسي» نلتجئ باللّه تعالي منه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 296

بصير بجميع شئونهم و مصالحهم، فهو ينزّل عليهم رزقهم بقدر و علي حدّ يشاء و يراه مصلحة لهم، فالاختلاف و التفاضل علي أساس العدل و لا مساواة بعد التساوي قبال الاحكام و الحدود.

الثانية- قوله تعالي:

لَهُ مَقٰالِيدُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ. (الشوري [42] الآية 12)

الآية أيضا تصرّح بأن مقاليد السموات و الأرض و مفاتيح الأرزاق و ما يستمد به الانسان لحياته الماديّة و المعنوية و ملكوت كل شي ء بيد اللّه تعالي و انه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدّره علي حدّ مقرّر يفيده، فانه تعالي بكل شي ء عليم لا يقلل عمّا يصلحه و لا يكثّر بما يفسده من عنده إلا من ظلم نفسه و اتبع هواه طلبا فيما ليس له فيضله اللّه علي علم و يختم علي قلبه و سمعه. و في المقام آيات أخر تصرّح بذلك مع اختلاف يسير في التعبير، نذكرها أيضا:

قال تعالي: أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. (الزمر [39] الآية 52)

و قال تعالي: اللّٰهُ لَطِيفٌ بِعِبٰادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ.

(الشوري

[42] الآية 19)

و قال تعالي: اللّٰهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ. (العنكبوت [29] الآية 62)

و قال تعالي: اللّٰهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ مَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا فِي الْآخِرَةِ إِلّٰا مَتٰاعٌ. (الرعد [12] الآية 26)

و قال تعالي: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّٰهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. (الروم [30] الآية 37)

و قال تعالي: … وَ اللّٰهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ. (البقرة [2] الآية 212)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 297

و قال تعالي: … قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ* يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. (آل عمران [3] الآية 73- 74)

و قال تعالي: إِنَّ اللّٰهَ هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ. (الذاريات [51] الآية 58)

و قال تعالي: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ النّٰاسِ لٰا يَعْلَمُونَ. (سبأ [34] الآية 36)

و قال تعالي: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرّٰازِقِينَ (سبأ [34] الآية 39)

و تقريب الاستدلال علي المطلوب في الجميع واحد قريب مما ذكر في الأولين و ان كان سياق بعضها انها ذكرت توطئة للترغيب في الانفاق الواجب و اعطاء حق ذي القربي بل و المستحب كما تعرف بملاحظة سياقها.

ختام بحث الرزق

و لا تتوهم من ذلك كلّه انه ليس علي الانسان شي ء من السعي و العمل، و ان الرزق مقسوم يطلب صاحبه حتي يدركه و ان لم يعمل و يسع- اهمالا و تسامحا فيما كان

عليه- فانه ليس للانسان إلا ما سعي و هو المخاطب بقوله تعالي: وَ لٰا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيٰا و هو مسئول مختار، له ان يعمل فيأخذ، و ان يترك فيحرم، و كلا الطرفين علي حدود و نظامات تكوينية و تشريعية.

فما هو علي اللّه تعالي خلق النظام علي أعدل وجه ممكن و تسبيب الأسباب بأسهل طريق ميسور بتمامه و كماله، بخلق الانسان بعينين و لسان و شفتين و هدايته النجدين و تكميله و تأييده بإرسال الهداة المهديين و إنزال الكتاب المبين.

و ما علي الانسان هو ان يقتحم العقبات و يكتسب و يسعي ابتغاء من فضل اللّه تعالي، فيرزقه بقدر منزل علي مستوي القرارات و القواعد الحاكمة من عند اللّه تعالي علي شراشر الوجود و الحياة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 298

فالرزق مقسوم مضبوط محدود.. رزق يطلبك في ذلك النظام العجيب الوسيع الذي لا يري له مبدأ و منتهي إلا مبدأ المبادئ و غاية الغايات و هو روح الحياة و الممات، و هو ما يصيبك مع السعي و العمل و تنتهي إليه مع الجدّ و الكدّ من مسير ذلك النظام و تلك الحدود المقررة و النواميس المنظّمة كلّها بإرادة اللّه تعالي، و رزق تطلبه بذلك أو منحرفا عن الدساتير و القرارات المضبوطة تكوينا أو تشريعا؛ فقد تصل إليه تكوينا و هو حرام لك شرعا غير مقرر لك جمعا و انت بسوء اختيارك و الإخلال في نظام التشريع «1» تكون قد انتهيت إليه، فبالنظام التكويني الذي لا يمكن الفرار عن حكومته تنتهي الي عذاب النار، إلا ان تتوب و ترجع عن طريقه الي الحق برد الحق الي صاحبه، و قد لا تصل إليه حتي مع الجدّ و السعي الكثير

و مع مراعاة المقررات التشريعية أو بدونها لما لم يكن في مجموع النظام و القرارات التكوينية المحيطة العادلة من العدل المطلق تعالي انتهاء ذلك العمل إليه تحفّظا علي العدالة الكلية الحاكمة، فاللّه تعالي يرزق من يشاء و يهدي من يشاء علي الحساب بغير حساب فانه تعالي لا يسأل عمّا يفعل لعدم موضع للسؤال بعد الحق و العدل الشامل و هم يسألون بعد ما ظلموا أنفسهم في تخطّيهم عن سواء الطريق. و تمام الكلام في مباحث المعارف «2».

تذييل في فروع الكتاب:

و هي اثنا عشر: -

الأول- الأصل إباحة كل مأكول و مشروب ما لم يردع عنه الشارع.

______________________________

(1)- قال تعالي: «وَ ابْتَغِ فِيمٰا آتٰاكَ اللّٰهُ الدّٰارَ الْآخِرَةَ وَ لٰا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيٰا وَ أَحْسِنْ كَمٰا أَحْسَنَ اللّٰهُ إِلَيْكَ وَ لٰا تَبْغِ الْفَسٰادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ». (سورة القصص [28] الآية 77) و قال علي (عليه السّلام) في هذا المقام: الرزق رزقان طالب و مطلوب فمن طلب الدنيا طلبه الموت حتي يخرجه عنها و من طلب الآخرة طلبته الدنيا حتي يستوفي رزقه منها. (نهج البلاغة كلمة 431)

(2)- و لقد تكلمنا علي العدل مع التوحيد و النبوّة في رسالة مطبوعة بالفارسية باسم (خدا و پيغمبر) بعد ما تكلمنا في الاصول الخمسة علي وجه آخر من قبل في رسالة فارسية مطبوعة باسم (گمشده شما).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 299

الثاني- لا بدّ و ان يكون المأكول و المشروب حلالا.

الثالث- يحل الانتفاع من الأنعام و من كل ما ينبت من الأرض.

الرابع- يحل ابتغاء فضل اللّه تعالي من البحر مطلقا من مائه و صيده لحما طريّا و حلية الي الملح و البترول. نعم، السمك غير ذي الفلس خارج بالنص، و الأحوط إلحاق

المائل للمحرّمات البرّية به، و ذبح ما يقبله كما هو مقتضي الأصل إلا ما أخرجه النص صريحا.

الخامس- تحرم الميتة بجميع أقسامها ماتت حتف الأنف أو عن طريق الخنق أو الضرب أو السقوط أو النطح أو اصطياد معلّم لم يمسكه، أو غير ذلك، و الدّم المسفوح الخارج دون الباقي بعد الذبح الشرعيّ، و لحم الخنزير و ما لم يذكر اسم اللّه عليه.

السادس- الخنزير رجس نجس لا ينتفع من جلده و شعره فيما يشترط فيه الطهارة.

السابع- يحرم كل ما يستخبثه الطبع مطلقا و لو كان من أجزاء المأكول اللحم المذبوح كالطحال و القضيب و الانثيين و المشيمة و الفرج و غيرها.

الثامن- يحرم شرب الخمر و كل مسكر و الفقاع مطلقا فانه اثم كبير.

التاسع- لا بأس باستعمال الكحول في الصنائع و ما لا يشترط فيه الطهارة.

العاشر- طعام أهل الكتاب حلّ لنا ما لم يكن محرّما ذاتا كالخمر و الخنزير أو عرضا كما اذا كان نجسا.

الحادي عشر- يجب التوسط في صرف الأموال في المحاويج و كذا في الأكل و الشرب.

الثاني عشر- يحرم الاسراف بالزيادة و التبذير بالتفويت.

و لا يخفي ان وجوب التوسيط و حرمة التجاوز الي أحد الحدين و ان كان في الحاصل أمرا واحدا- و لكن عرفت اعتبارهما بالأمر بالأول و النهي عن الثاني حسب

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 300

الظاهر كما عرفت- و الأمر سهل بعد وضوح الأمر بحمد اللّه تعالي.

تمّ الكتاب بحمده تعالي و يتلوه كتاب المجتمع و الآداب ان شاء اللّه و الساعة الآن الخامسة و الربع بعد ظهر اليوم الأخير من سنة ثلاث و خمسين و ثلاثمائة بعد الألف الشمسية المطابقة للسادس من ربيع الأول سنة خمسة و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة،

و نسأل اللّه التوفيق، و كنت حينها في رودبار فريدا مبعدا و الحمد للّه أولا و آخرا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 301

كتاب المجتمع و الآداب

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 303

المجتمع و الآداب

الانسان بنوعه لا يتمكن من العيش منفردا، و هو بطبعه مدني تعاوني يأنس و يألف، و هو مرتبط علي فطرته أولا بوالديه اللذين ولّداه و ربّياه كلّ بوجه، و ثانيا بأسرته … زوجته و أولاده و حفدته، و كذلك اخوته و اخواته، و ثالثا بعشيرته و قومه بعد الاسرة كوالدي والديه و اخويهما و اخوتهما و أولادهما، و رابعا بشعبه و امته، و الاسر التي تجمعها علاقات خاصّة دينية أو دنيوية من الأراضي التي يعمرونها و يزرعونها و البلاد التي يسكنونها. و المسلمون ملّة و أمّة اينما يعيشون و هم خير أمّة و اخوة. و الكفر ملّة واحدة. و خامسا بالانسانية بمعناها الأعم.

هذا النوع العائش علي بسيط الأرض و أقطارها بألوان مختلفة و جنسيّات متشتتة و ألسنة متفاوتة، و هو خليفة اللّه تعالي و المظهر لأوصافه و صفاته، فلكل فرد روابط و لكل رابطة حكم أو أدب نتعرّض له اجمالا في المقام خلال فصول علي ضوء كتاب اللّه العزيز بعونه و توفيقه مع ملاحظة الترتيب.

الفصل الأول: علاقة المؤمن و والديه

و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ قَضيٰ رَبُّكَ أَلّٰا تَعْبُدُوا إِلّٰا إِيّٰاهُ وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً إِمّٰا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 304

أَحَدُهُمٰا أَوْ كِلٰاهُمٰا فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ وَ لٰا تَنْهَرْهُمٰا وَ قُلْ لَهُمٰا قَوْلًا كَرِيماً* وَ اخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً.

(الاسراء [17] الآية 23- 24)

تحكي الآية عن قضاء الربّ تعالي و إردافه التوحيد في العبادة بالاحسان بالوالدين بجملة خبرية في مقام الانشاء، و تنهي عن أي قول يخالف الاحسان إليهما أقلّه الأفّ، فكيف بمن ينهرهما و يزجرهما؟ ثم تأمر ثانيا بقول كريم هو

أقل مراتب الاحسان، و بعده خفض الجناح و تذليل النفس لهما و الرحمة و الرأفة بهما و الدعاء لهما متذكّرا لما تصدّيا و تحمّلا من مشاقّ التربية بقوله: رَبِّ ارْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً. و كل ذلك من باب ذكر المصداق. و المطلوب كما تري وجوب الاحسان الي الوالدين و حرمة الاساءة إليهما و ايذائهما علي كليّتها القابلة للانطباق علي مصاديق مختلفة.

الثانية- قوله تعالي:

قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلّٰا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً.

(الأنعام [6] الآية 151)

الآية- كما تري- بصراحتها تأمر بالاحسان الي الوالدين بعد النهي عن الشرك باللّه تعالي في سياق بيان أحكام اللّه تعالي و محرّماته، و التعبير قريب من الأولي التي كانت توجب الاحسان رديف التوحيد في عبادة اللّه؛ و ترك الشرك به عبارة اخري عنه كما تعلم.

الثالثة- قوله تعالي:

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ لِتُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلٰا تُطِعْهُمٰا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. (العنكبوت [29] الآية 8)

تخبر الآية الكريمة إنشاء أيضا عن وصيّة اللّه تعالي الانسان بالاحسان الي والديه و المعاشرة معهما حسنا في كل أمر الّا في مسألة الكفر و الايمان بل كل باطل،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 305

فان جاهداه ليشرك باللّه تعالي فلا إطاعة لهما مع حسن المعاشرة و العمل بالمعروف، و تؤكد ذلك بان مرجعكم جميعا (الولد و الوالدين) إلينا فننبئكم بما عملتم من الاحسان أو الاساءة الي الوالدين، و كذلك دعوتهما الولد الي الخير و الفضيلة و عبادة الحق تعالي؛ أو الشرّ و الشرك و الرذيلة.

فالآية محصلا تطلب من الانسان الاحسان بوالديه للتقرب به الي اللّه، فلا احسان في اجابة دعوتهما إيّاه الي الشرك أو الي كل

ما يباعده عن اللّه تعالي و الخير و الحق، فان ذلك خارج موضوعا بتخصص عقلي أرشد إليه الشرع كما هو ظاهر.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ إِحْسٰاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلٰاثُونَ شَهْراً. (الاحقاف [46] الآية 15)

الآية الكريمة أيضا تخبر- إنشاء- عمّا وصّي تعالي به الانسان من الاحسان بوالديه مشيرا الي المشاقّ التي تحملتها أمّه فيما حملته كرها و وضعته كرها و رضعته شهورا حتي كان جمع حمله و فصاله ثلاثين شهرا، فكان مع ذلك أول وظائفهما في مراحل التربية. و الانسان لا سيما في أوان شبابه لا يدرك شيئا من ذلك ليحسّ قباله لزوم رعاية الوالدين عن ايمان و يقين، و للعواطف الانسانية في المقام دور لا ينكر في الطرفين (الولد و الوالدين) و يشير إليه ذيل الآية حَتّٰي إِذٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قٰالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَليٰ وٰالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

فالآية أيضا توجب الاحسان الي الوالدين علي مفهومه الكلي القابل للانطباق علي مصاديق مختلفة حسب اختلاف شرائط الزمان و المكان و الولد و الوالدين، الدائر مدار الصدق العرفي و ذلك أيضا في غير دعوتهما ايّاه الي الشرك بل الي كل شرّ و ضرر يستقل بحرمته العقل.

الخامسة- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 306

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَليٰ وَهْنٍ وَ فِصٰالُهُ فِي عٰامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوٰالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ* وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ عَليٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلٰا تُطِعْهُمٰا وَ صٰاحِبْهُمٰا فِي الدُّنْيٰا مَعْرُوفاً. (لقمان [31] الآية

14- 15)

الآية- كما تري- توجب الشكر للوالدين بعد الشكر للّه تعالي، و هو في أية مرتبة تحقق يصدق عليه الاحسان، فتوجبه بمرتبته الخاصة، و لعلّ ذكر المصداق بعد وجوب الاحسان كما عرفت يومئ الي ضعفه و وضعه حينما حملته أمّه و هنا علي وهن حتي انتهي فصاله عن الرضاع في عامين.

نعم و حيث ان الاحسان إليهما باطاعتهما في دعوتهما ايّاه الي الشرك بل الي كل شر و ضرر محرّم شرعا أو عقلا، اساءة الي نفسه يبعّده عن الربّ تعالي و ينقض الغرض، فقد حكم تعالي بأنه إن جاهداك علي ان تشرك باللّه تعالي أو ترتكب حراما فلا تطعهما، و مع ذلك صاحبهما في الدنيا و شئونها بما هو المعمول المتعارف بين الأولاد المحسنين الي والديهم، فالواجب الاحسان الي الوالدين بشكرهما علي تحمّلهما المشاقّ و تصدّيهما للوظائف، و مصاحبتهما بالمعروف؛ كل ذلك علي سعة النطاق المنطبقة علي مختلف المصاديق كما عرفت.

ثم انك بعد ملاحظة تحديد الفصال و مدته بعامين، و في السابقة تحديد الحمل و الفصال معا بثلاثين شهرا تجد- بوضوح- إفادة الآيتين ان أقل مدّة الحمل ستة أشهر، و عليه يتفرع مسائل كثيرة في الشبهات كما ذكر في المفصلات.

و الحاصل أنّ الآيات في الفصل بأجمعها و ألسنتها المتفاوتة توجب الاحسان الي الوالدين و تحرّم ايذاءهما و الإساءة إليهما علي اختلاف المصاديق في الطرفين؛ و الصدق عرفي نوعي لا شخصي، و قد أشبعنا الكلام في البحث و فروعه في رسالتنا في الجهاد علي طريق الأصحاب عند الكلام في اشتراط اذن الوالدين فراجع «1».

______________________________

(1)- و من المعلوم ان تأكيد الاسلام علي الاحسان الي الوالدين في الأبواب المختلفة هو للحفاظ علي كرامة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 307

الفصل الثاني: المؤمن و أسرته

و

في المقام بعد التوجه الي الآيات الراجعة الي روابط الزوجين و عيشتهما المشتركة علي أساس الود و الوفاء بالعهود الالهية و الانسانية و الآيات الراجعة الي روابط الأب و الولد في النفقة، من الرزق و الكسوة، و روابط الأم و الولد في الرضاع و وجوب التحفّظ و المراقبة حتي يبلغ أشدّه، و حرمة اسقاطه و قتله خشية إملاق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ كما فصلناها في كتاب النكاح و المحرّمات، بعد ذلك نشير الي بعض الآيات الراجعة الي الأولاد.

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَخُونُوا اللّٰهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمٰانٰاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلٰادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللّٰهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

(الانفال [8] الآية 27- 28)

تنهي الآية الأولي المؤمنين عن خيانتهم اللّه و رسوله بنقض عهودهما و ترك أوامر اللّه و الرسول أو ارتكاب نواهيهما و هم يخونون امانتهم بينهم و هم يعلمون، فتنهي عن ذلك أيضا بمحصل الآية الثانية بأن الأموال و الأولاد فتنة يختبر بهما الانسان حتي يميز المغشوش القلب عن الصافي الخالص: أَ حَسِبَ النّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لٰا يُفْتَنُونَ و اللّه ذو فضل عظيم علي الذين يفتنون بذلك فيخلصون عن كل دنس و شرك، يكتسبون الأموال عن طرقها المشروعة و ينفقونها في العيشة الانسانية و تربية الأولاد علي سبيل الحق و الخير و السعادة، فالآيتان

______________________________

الامة من خلال حفظ كرامة الأسر. و الانسان بنوعه يتكامل علي شرائط متغيرة؛ و ان ذلك الاختلاف بين الأولاد و الآباء أمر طبيعي قهري في كل زمان.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 308

بروحهما تحكمان علي المؤمنين بوجوب رعاية المال و الولد، و ان عليهم في الأموال بعد التحرّز عن

مكاسبها المحرّمة الإنفاق في سبيل الاسرة حتي يتمكنوا من التكامل في سبيل اللّه و الخير و طريق الحق، و في الأولاد بعد ذلك مراقبتهم عن الشرور و البلايا الجسمية و الروحية حتي يبلغوا الأشدّ و الكمال.

الثانية- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ وَ أَوْلٰادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* إِنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلٰادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللّٰهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ* فَاتَّقُوا اللّٰهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. (التغابن [64] الآية 14- 16)

الآيات بعد ما تنادي بأن المؤمن حقّا هو المتوكل علي اللّه- فانه لا إله إلا هو- تحكي عن واقع في الحياة الدنيا من ان بعض الأزواج- زوجا أو زوجة- و الأولاد عدو لكم يباعدونكم عن اللّه و يصدّونكم عن سبيل اللّه، كما ان بعضهم وليّ و معاون علي سبيل اللّه و الخير فاحذروا العدو منهم و اجتنبوهم في الأعمال و الأفكار، و مع ذلك فاعفوا و اصفحوا كثيرا من خطاياهم حتي تهنأ العيشة مهما أمكن و اغفروا لهم بعض ما يغفر، فان اللّه غفور رحيم، و راقبوا أنفسكم في الزلّات الهالكة فان الأموال و الأولاد فتنة يختبر بهما الانسان؛ ان استخدما في سبيل اللّه و الحق و الخير فهو، و إلا فهما نقمتان و عذابان لا نعمتان و زينتان، و اللّه هو الموفّق و المعين و بيده تعالي ملكوت كل شي ء فنسأل منه الخير في كل حال و علي كل حال.

الثالثة- قوله تعالي:

الْمٰالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ الْبٰاقِيٰاتُ الصّٰالِحٰاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوٰاباً وَ خَيْرٌ أَمَلًا. (الكهف [18] الآية

46)

تخبر الآية عن واقع في حياة الانسان مع التنبيه الي مسئوليته قبال ذلك، و هو ان المال و البنين زينة الحياة الدنيا، و الانسان يتحلّي و يتزيّن بهما، فان الوالدين بما

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 309

لهما الولد متحليان تجاه من لا ولد له و كذلك المالك، إلا انه لا ينبغي للانسان الاكتفاء بنفس التعلق و التحلّي ما لم يتعلق به الغرض الأعلي المساعد لشأن الانسان، و الباقيات الصالحات الجارية بعده المتمتع بها عباد اللّه مما عمله بماله و جهده بنفسه من بناء المساجد و المدارس و المستشفيات و كل خير، و تربية الأولاد الصالحين العاملين بالخير المؤمنين بشرائع اللّه تعالي الهادين عباده الي سبيل الحق و الخير أو كتاب يهتدي به القارئ فيقترب الي اللّه تعالي.. كل ذلك الباقيات خير عند ربك ثوابا و أملا من مال و بنين يقتصر علي التزين بهما و التفاخر علي عباد اللّه فان ذلك جاهلية و انحطاط.

و الحاصل ان الآية أيضا بروحها تقضي علي الانسان بمسئوليّة في الأموال و الأولاد و وجوب رعايتهما في الحياة الدنيا، فكيف في الاسرة و العيشة العائلية؟

الرابعة- قوله تعالي:

وَ مٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ لٰا أَوْلٰادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنٰا زُلْفيٰ إِلّٰا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَأُولٰئِكَ لَهُمْ جَزٰاءُ الضِّعْفِ بِمٰا عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفٰاتِ آمِنُونَ.

(سبأ [34] الآية 37)

الآية تؤكد البحث السابق في سياق تحاور المستكبرين و المستضعفين لما رأوا العذاب فكل يرمي الآخر في ذنب الضلال و الهلاك، فان المستضعفين يقولون للمستكبرين: لو لا أنتم لكنّا مؤمنين فيجيبونهم بقولهم ان نحن صددناكم عن الهدي بعد اذ جاءكم بل كنتم مجرمين. حتي ينتهي الكلام الي قول المترفين في مواجهة الأنبياء المنذرين: نحن أكثر أموالا و

أولادا و ما نحن بمعذبين. ففي المقام أمر اللّه تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ان يقول للناس: ان ربي يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر … و ما أموالكم الكثيرة و لا أولادكم العديدة بالتي تقرّبكم عندنا زلفي إلّا من آمن باللّه تعالي و اليوم الآخر فعلم ان ذلك بيد قدرته تعالي يؤتيه من يشاء و يمنعه عمّن يشاء، و عمل في كل من المال و الولد صالحا؛ و عندئذ لهم جزاء الضعف بما عملوا و ما هم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 310

بمعذبين و هم في الغرفات آمنون. فان من سنّ سنّة حسنة فله مثل من عمل بها.

فالعامل في الأموال و الأولاد صالحا، كان له باقيا مما عمل، فيضاعف أجره باستمتاع الآخرين من باقياته الصالحات.

و عليه فالأموال و الأولاد- بما هما- زينة و تفاخر، و لكن بما استخدما في الأعمال الصالحة نعمة و تعاون يتقرّب بهما العبد الي اللّه، اللّهم اجعل ذريّاتنا مسلمة لك و بارك في أموالنا آمين.

الخامسة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُلْهِكُمْ أَمْوٰالُكُمْ وَ لٰا أَوْلٰادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْخٰاسِرُونَ. (المنافقون [63] الآية 9)

تعقّب الآية أيضا البحث و توقظ المؤمنين من غفلتهم و التهائهم بالأموال و الأولاد عن ذكر اللّه تعالي، أعاذنا اللّه من ذلك، فان من توغّل في تعاطي الأموال و التفاخر بالأولاد يستدرج الي نسيان اللّه تعالي و أوامره فيقترف الذنوب و يهوي الي الهلاك فاولئك هم الخاسرون.

الفصل الثالث: المؤمن و عشيرته

و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ* أُولٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّٰهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْميٰ أَبْصٰارَهُمْ. (محمد [47] الآية 22- 23)

سياق الكلام في الآيات

البحث عمّا يلج في صدر الذين اذا نزلت سورة محكمة و ذكر فيها القتال ينظرون الي رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بما في قلوبهم من مرض

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 311

نظر المغشيّ عليه خوفا من الموت فيعسون تمنّيا، و عندئذ تسألهم الآية اقرارا هل عسيتم ان تولّيتم عن القتال و تركتم الجهاد في سبيل اللّه أن تفسدوا في الأرض بما تتوهمون و تظنون و ان تقطعوا أرحامكم الذين اسلموا لما أنزل و اعتقدوا بالحق فجاهدوا في سبيل اللّه. ثم تحكم عليهم بفسادهم في الأرض بنفس التولّي عن الجهاد فينتشر الفساد، أو بعمل آخر يوجب ذلك، و بقطعهم الأرحام، بأنّ عليهم لعنة اللّه فأصمّهم و أعمي أبصارهم، و كان علي قلوبهم أقفال، و ان تدبّروا القرآن لما كانوا يفسدون في الأرض و لما قطعوا الأرحام، و لما انصرفوا عن القتال.

و الآية- كما تري- خلال البحث الواسع النطاق بالنسبة الي ما نحن فيه- تفيد بأصرح من التصريح حرمة قطيعة الرحم، و لزوم المعاشرة و المواصلة مع الأقارب و الأرحام علي المعروف المتداول بين الامّة المسلمة لا بين الناس مطلقا فيختصّ بغير المحرم أو ما أفضي الي ترك الواجب؛ و بذلك يتشخّص مصداق الوصل المأمور به و يتعيّن أجلي المصاديق في الآيات الآتية التي تشير إليه بقوله وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، كما ستعرف ان شاء اللّه، و قد فسّرته السّنة بصلة الرحم و زالت الشبهة بحمد اللّه تعالي و المنة.

الثانية- قوله تعالي:

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مِيثٰاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولٰئِكَ هُمُ الْخٰاسِرُونَ. (البقرة [2] الآية 27)

تعد الآية خلال أوصاف

الفاسقين انهم الذين ينقضون عهد اللّه و ميثاقه الذي عاهدوه تعالي بقولهم آمنّا بعد ما سمعنا مناديا ينادي للايمان ان آمنوا بربّكم المقتضي لرعاية حدود اللّه تعالي و أحكامه، فيتركون الواجبات أو يقترفون المحرّمات و لو ببعضها، و كذلك يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، و حيث ان ذلك القطع غير نقضهم عهد اللّه ظاهرا فهو غير ترك أوامر اللّه تعالي أو ارتكاب نواهيه العباديّة أو تجاوز حدوده و شرائعه الحكوميّة، و مقارنته بالفساد في الأرض ترشد الي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 312

انّه هو قطيعة الرحم، كما صرحت به الآية الأولي، و ان كان علي وجه أجلي المصاديق و بقاء المفهوم علي سعته. و المنافق هو الذي يقطع مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الرّحم أو اخوة المؤمنين أو المرابطين و المجاهدين أو العلماء العاملين أو غيرهم ممن هم المطلوب صلتهم بأدلتها المستقلة كما هو ظاهر.

فالذين يقطعون الأرحام هم الخاسرون أيضا فان الفاسقين هم الخاسرون، فتدلّ الآية علي حرمته و لزوم صلتهم كصلة غيرهم ممّن أمر اللّه به ان يوصل.

الثالثة- قوله تعالي:

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ وَ لٰا يَنْقُضُونَ الْمِيثٰاقَ* وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخٰافُونَ سُوءَ الْحِسٰابِ* … الي قوله تعالي وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مِيثٰاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّٰارِ. (الرعد [13] الآية 20- 25)

سياق الآيات في بيان أحوال الناس و اتباعهم الحق أو الباطل من ان الذين استجابوا لربّهم لهم الحسني و الذين لم يستجيبوا لهم سوء الحساب و مأواهم جهنم و بئس المهاد، فلا يستوي

الأعمي و البصير، أ فمن يعلم انّما انزل أليك من ربك الحق كمن هو أعمي و لا يعلم شيئا، لا يستوون، و انّما يتنبه بذلك و يتذكر أولو الألباب، و هم الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ فيعملون بما عليهم و لا ينقضون الميثاق مع ربهم عند قولهم بلي جوابا عن السؤال: أ لست بربكم و قولهم آمنّا كما قلنا، و هم الذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل و يخشون ربهم بالغيب و يخافون سوء الحساب و هم الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم دون رضا الناس و الشهرة و الشهوة، و اقاموا الصلاة علي صلبها من غير اكتفاء باتيانها بأنفسهم فقط و انفقوا مما رزقهم اللّه سرّا و علانية و يدرءون باتيان الحسنة سوء السيئة ان زلّوا إليها احيانا. فاولئك لهم عقبي الدار من جنات عدن يدخلونها و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذريّاتهم و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار (اللّهم اجعلنا من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 313

الصابرين لوجهك و ادخلنا معهم جنات عدن برحمتك و رضوانك و ان لم أكن من اللائقين للطفك و لكني من اللاجئين ببابك).

ثم تؤكّد الآيات البحث من الناحية السلبية أيضا و ان الذين ينقضون عهد اللّه فلا يعملون بما عليهم من مقتضي الايمان- كما عرفت- وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّٰارِ.

و من المعلوم ان الذين يصلون أو يقطعون ما أمر اللّه به ان يوصل هو غير الوفاء بعهد اللّه أو نقض ميثاقه من اتيان الأوامر و ترك النواهي أو بالعكس، و ذلك بمقتضي العطف كما عرفت،

و أجلي مصاديقه قطيعة الرحم و صلته مع بقاء المفهوم المطلوب علي سعته، فينطبق علي غيره أيضا مما عرفت.

فالآيات بلسانها الايجابي و السلبي (من طرفين) تفيد ان الواجب علي المؤمن باللّه و اليوم الآخر مواصلة أرحامه و عشيرته و مرافقتهم و مراودتهم بالمعروف من غير فصل و عزل و تفاخر و ان كانوا مختلفين علي أساس شئون الأموال و المناصب الدنيوية، فان اللّه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر وَ فَرِحُوا بِالْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ مَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا فِي الْآخِرَةِ إِلّٰا مَتٰاعٌ «1» (الرعد [13] الآية 26).

و من المعلوم ان صلة من يجب صلته لا تكون إلّا بتقديم العون له و رجاء الآخرة بإرشاده و تقويمه و سدّ احتياجاته، فعلي كل مؤمن مواصلة ارحامه و عشيرته بما يوجب خيرهم و سعادتهم في الدارين. وفّقنا اللّه و إيّاكم ان شاء اللّه.

______________________________

(1)- و كذلك يدلّ علي المطلوب اطلاق ذي القربي في قوله تعالي: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبيٰ حَقَّهُ» (الاسراء [17] الآية 26) و قوله تعالي: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي الْقُرْبيٰ» (النحل [16] الآية 90) فان المراد حسب ظاهر السياق مطلق أقرباء الانسان و لا ينافي التطبيق بعنوان المصداق علي قرابة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فان سعة نطاق المفهوم غير المراد في القائه مصداقا كما تعلم سيما في لسان القرآن.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 314

الفصل الرابع: المؤمن و شعبه

اشارة

و فيه أقسام:

الف- في علاقة أمير المؤمنين و وليّهم معهم. أي في علاقة القائد الاسلامي بشعبه و أمّته:

و فيه آيات: -

الأولي- قوله تعالي:

وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَ اخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمّٰا تَعْمَلُونَ* وَ تَوَكَّلْ عَلَي الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ «1».

(الشعراء [26] الآية 214- 217)

الآيات و ان كانت تخاطب النبي الأكرم رسول اللّه و وليّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الأولي بالمؤمنين من أنفسهم، فتأمره بإنذار عشيرته الأقربين و خفض الجناح للمؤمنين الطائعين و التبرّي من أعمال العاصين المخالفين مع التوكّل علي اللّه العزيز الحكيم في ارشاد الناس و هداية المؤمنين، و لكن ذلك لا يختص بنفسه الشريفة بل لكل منذر هاد، فعلي وليّ المؤمنين و أميرهم في كل زمان انذار الأقربين منه و اسرته و عشيرته أوّلا، و التوسّع في النطاق شيئا فشيئا حتي يكون الدين كلّه للّه، و لا يكون علي

______________________________

(1)- و قريب من ذلك في عناصره الاخلاقية بل العملية قوله تعالي: «فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (آل عمران [3] الآية 159)، و كذلك قوله تعالي: «لٰا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِليٰ مٰا مَتَّعْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً مِنْهُمْ وَ لٰا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَ اخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» (سورة الحجر [15] الآية 88) و الآية كما تري تشتمل علي ناحيتي السلب و الايجاب من تولّي المؤمنين و خفض الجناح لهم و تبري الكفّار من تركهم و عدم النظر الي مسراتهم أو الحزن في مصائبهم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 315

الأرض من المشركين ديّار، و ان كان اللّه تعالي هو الهادي لمن يشاء.

و كذلك علي كل زعيم و رئيس

منصوب من قبلهم الدعوة و الارشاد أوّلا و خفض الجناح للمؤمنين باللّه تعالي و اليوم الآخر بمرافقتهم في شتّي شئون العشرة و التبرّي من المعاندين المخالفين «1» لئلّا يضرّوا المؤمنين شيئا، فعليه محافظتهم عن شرورهم بأيّ وجه و لو بالمقاتلة و المدافعة حسب المقتضيات في كل شأن من شئون الامة … ثقافتهم و اقتصادهم و هكذا …

الثانية- قوله تعالي:

ادْعُ إِليٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.

(النحل [16] الآية 125)

تأمر الآية الهادين المنذرين العلماء و المسئولين الزعماء العاملين، بالدعوة الي سبيل اللّه و كل خير و صلاح من طريق الحكمة و بيان المصالح و المضارّ للناس و افهامهم الحقائق السارية في الدنيا و الآخرة علي أساس الفطرة و الكون حسب ما تدركه مداركهم المتشتتة، لمن كان أهلا للبرهان و الاستدلال علي الأمور اثباتا و نفيا، و بعده الوعظ و النصح لتوضيح المطلوب و تنظير المبحوث عنه، علي وجه يحسّ المؤمن التابع انه لازم الرعاية مباشرة أو غير مباشرة، فيتبع الخير و السعادة و ينالها؛ و ذلك لمن لا يدرك البرهان و هم أكثر نفرا. و بعد ذلك الدعوة بطريق الجدال الحسن و افحام الخصم مما يتسلمه من قبل حتي ينتهي الي قبول الحق عملا، و لا أقل من اسكاته و منعه عن اغراء الآخرين و اغوائهم بأراجيفه الباطلة الذاهبة جفاء، و ان لم يهتد بنفسه، فان اللّه يهدي من يشاء الي صراط مستقيم. كل ذلك لمن يخاصم الحق عنادا سواء كان ممن يدرك البرهان أو لا، فانه لا يقبل النصح، و ليكن الجدال علي

______________________________

(1)- كما يشير الي ذلك بتعبير

آخر في قوله تعالي: «خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجٰاهِلِينَ».

(الاعراف [7] الآية 199)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 316

وجه حسن لينتج الخير و يهدي الي الحق و الفضيلة لا ان يغضبه و يضطرمه فيكون سكوته لا عن اقتناع، فينتظر الفرصة ليعمل علي خلاف الحق و يضلّ الناس عن سبيله.

و الجدال بوجه حسن آخر طرق الارشاد و الهداية لمن لم يتّعظ و لم يقبل الاستدلال- أدركه أو لا- فان العلم و الادراك غير تسليم النفس، و العمل.

فالآية تدلّ علي ان وظيفة أولياء الأمور و أمراء المؤمنين و هم أول الدعاة و أحقّهم و الأوجب عليهم، الدعوة الي سبيل اللّه و ارشاد الناس إليه تعالي لتكون عيشتهم عيشة اسلامية انسانية، كلّا حسب ما يناسبه بإحدي الطرق الممكنة من الحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال الأحسن «1».

و مع الأسف فإن الحكّام المعاصرين في بلادنا، الجائرين علي مواطنينا- سيّما الأول منهم يستمدون من كل امكاناتهم لتحكيم مبادئ ظلمهم و نشر الأراجيف و توسعة المنكرات في طريق محو الاسلام و القرآن باسمهما، و أهل العلم و ولاة الحق مظلومون شهداء مسجونون غرباء مبعدون عن كل ارشاد و انذار محرومون، فصبّ اللّه علي أعدائه سوط عذابه و عجّل فرج وليّه (عليه السّلام) و نوّابه ان شاء اللّه تعالي.

أضف الي ما ذكر في المقام ما فصّلناه في كتاب القضاء، من وجوب الحكم بما أنزل اللّه و رعاية حقوق الناس، و كذلك ما ذكرناه في كتاب الولاية من حدود الوالي من التصرّف في مصالح الأمّة دون المضارّ، كل ذلك حتي تكون الامّة خيرا تجذب كل مخالف إليها ليحلّ فيها و يكون منها و يكون الدين كلّه للّه. و متابعة هذا الهدف

لهو من أعظم وظائف ولي المؤمنين و أميرهم وفّقهم اللّه لذلك ان شاء اللّه.

______________________________

(1)- و لا يتم عندنا ما عن الفيض (رحمه اللّه) من عطف الموعظة الحسنة علي البرهان بيانا فيكون الجدال موعظة غير حسنة و منع الجدال مطلقا. كما في المحجة البيضاء.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 317

ب- في علاقة المؤمنين مع وليّهم و أميرهم. أي (الشعب و القائد):

في البحث مضافا الي آيات الطاعة «1» الدالة علي وجوب الرجوع الي ولاة الحق و اتباعهم في سبيل الخير و توسعة الحق و اعلاء كلمة اللّه تعالي و محو كلمة الشيطان و كذا الآيات الدالّة علي جواز تصرّف الولاة في شئون المؤمنين علي حدّ الولاية، و ان علي المؤمنين قبول ذلك- كما فصّلناه في كتاب القضاء و الولاية- و زائدا علي آيات الخمس و الزكاة الدالّة علي وجوب اداء سهم من الأموال ليصرفه الوليّ في سدّ احتياجات الامّة علي ما فصّلت في محالّة.

زائدا علي ذلك كلّه، في المقام آيات نشير إليها ان شاء اللّه.

الأولي- قوله تعالي:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لٰا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمٰالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لٰا تَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّٰهِ أُولٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللّٰهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْويٰ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ يُنٰادُونَكَ مِنْ وَرٰاءِ الْحُجُرٰاتِ أَكْثَرُهُمْ لٰا يَعْقِلُونَ* وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّٰي تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (الحجرات [49] الآيات 1- 5)

تخاطب الآيات المؤمنين و تنهاهم عن التقديم بين يدي اللّه و رسوله بمعناه المطلق، فليس لهم تقديم رأيهم و نظرهم

علي أحكام اللّه تعالي و حدوده في شي ء، و علي آراء رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في أوامره الحكوميّة. قال تعالي: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اللّٰهَ و قال تعالي: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ في آيات كثيرة، كما عرفت من قبل. ثم تؤكد الآيات الأمر بايجاب تقوي اللّه، فان اللّه تعالي

______________________________

(1)- أشرنا إليها في كتاب الولاية، و أشبعنا الكلام عنها في رسالتنا (بحث حول الامامة).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 318

سميع لكل ما تقولون- وافق قول اللّه تعالي و رسوله أو خالف- عليم بما تعملون كذلك.

ثم تخاطبهم أيضا فتنهاهم عن رفع صوتهم فوق صوت النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و هم بمحضره يتفوّهون، كما تنهاهم عن الجهر بالقول له كجهر بعضهم بعضا، فان ذلك يحبط عملهم، فعليهم ابتغاء التوسيط بين الجهر و الإخفات حال الكلام في محضره الشريف فانّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول اللّه اولئك الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوي و ظهر انهم متّقون مراعون شأن رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و أمر اللّه تعالي فيه، فلهم مغفرة و أجر عظيم بما كانوا يعملون. و في المقام تؤدّب المؤمنين أيضا بأن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. و لو انهم صبروا حتي تخرج إليهم لكان خيرا لهم و اللّه غفور رحيم عمّا مضي من ندائهم الرسول من وراء الحجرات.

و عندنا الآيات و ان كانت واردة في رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) إلّا انها تؤدب المؤمنين في معاشراتهم مع ولاتهم و أمرائهم ابتداء بالرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و مرورا بالأئمة الهداة المعصومين (عليهم السّلام)

و انتهاء بالمنصوبين من قبلهم.. العلماء العاملين و وكلائهم العامة و الخاصة؛ فعلي المؤمنين اطاعتهم و الانقياد لهم في أوامرهم الحكوميّة بعد الاستماع و العمل بالأوامر الالهية، كما ان عليهم اداء الفرائض و الحقوق المالية إليهم في كل عصر حتي يتمكّنوا من تنفيذ حدود اللّه و اعلاء كلمته العليا. و كذلك عليهم- حال الكلام معهم- مراعاة الأدب من خفض الصوت و ترك الجهر أو استعمال كلمات ركيكة فلا تكون مكالمتهم معهم بما هو المتداول بين أنفسهم لغة و صوتا، كما ان عليهم ترك النداء من وراء الحجرات، و الصبر حتي يخرجوا إليهم عند قصد زيارتهم، فان ذلك كلّه خير لهم و اللّه تعالي غفور عمّا مضي رحيم عليكم فيما يأتي.

الثانية- قوله تعالي:

لٰا تَجْعَلُوا دُعٰاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعٰاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً. (النور [24] الآية 63)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 319

صدر الآية كذيل السابقة تنهي المؤمنين عن نداء الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) كدعاء سائر الناس بما هو المتعارف بينهم، فلا بدّ من ملاحظة السماحة و العظمة بالأدب حسب الصوت و الكلمة بأن تكون الألفاظ و اللغات المستعملة في نداء الرسول، و كل وليّ و أمير إلهي، بل كل شريف، بما يناسب المقام حسب مراتبهم و درجاتهم، و كذا من جهة الصوت لا بدّ من التعديل و الغضّ بخفضه بالنسبة الي دعاء الناس بعضهم بعضا، و قال لقمان لابنه و هو يعظه: وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ كما سيأتي ان شاء اللّه.

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلّٰا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِليٰ طَعٰامٍ غَيْرَ نٰاظِرِينَ إِنٰاهُ وَ لٰكِنْ إِذٰا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذٰا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لٰا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذٰلِكُمْ كٰانَ يُؤْذِي

النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللّٰهُ لٰا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَ إِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ مٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّٰهِ … (الاحزاب [33] الآية 53)

تنادي الآية المؤمنين و تخاطبهم، فتنهاهم عن دخول بيوت النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من غير اذن أوّلا، و اذا دخلوا مع الاذن و كان ذلك للطعام فلا يكونوا ناظرين للاناء و الاثاث نظرة النقد و البحث، فيتفوّهوا بالآراء مدحا و ذما، و ينتهي الكلام الي ما لا يناسب المقام، و اذا طعموا فعليهم الانتشار و الخروج حتي يستريح المضيف، و لا يطيلوا الجلوس باستيناس الحديث يحكي كل منهم شيئا يتكلمون فيه بالاثبات و النفي حتي التشاجر غالبا، فان ذلك كلّه يؤذي رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و يستحيي منكم ان يأمركم بالسكوت أو الخروج و الانتشار، و لكن اللّه تعالي لا يستحيي منكم في تأديبكم، و انت كما تري تلك الآداب بالنسبة الي الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) تكون بملاحظة شأنه العظيم و مقامه المنيع الرئيسي، فتكون لكل حاكم إلهي و آمر من قبله حسب شأنه مرتبة، و علي المؤمنين مراعاة ذلك كلّه بالنسبة الي ولاة أمرهم، و علي الملاك

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 320

الي كل مؤمن، فان صاحب البيت يستحيي من الضيف غالبا، فلا بد من الاستئذان للورود أوّلا علي الغير كائنا من كان، سيّما العلماء العظام و المؤمنين الكرام، و عدم النظر بعين النقد و البحث الي الاثاث و الاناء بعد الورود مع الاذن للطعام أو غيره ثانيا، و الانتشار بالخروج من غير استيناس للحديث، و الاجتناب عن

كل ما يؤذي ربّ البيت فانه يستحيي من الضيف غالبا، و كذلك لا بدّ و ان يكون السؤال عن أهل بيت المضيف عن المتاع أو الطعام أو غيره من وراء حجاب، كما سيأتي ان شاء اللّه.

و ذلك كلّه تأديب للمؤمنين بل الانسان بما هو انسان حتي ينجلي بمزاياه الانسانية؛ و مع الأسف يتراجع جمع من الناس اليوم باسم المدنية الي الوحشية و يرون ذلك رجعيا.

الرابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَنٰاجَيْتُمْ فَلٰا تَتَنٰاجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَنٰاجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْويٰ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. (المجادلة [58] الآية 9)

الآية ضمن آيات، تبحث عن أدب آخر بعد العناية الي ان المؤمن يري و يعتقد ان اللّه بكل شي ء عليم و ما يكون من نجوي ثلاثة إلا هو رابعهم و لا خمسة الّا هو سادسهم و لا أدني من ذلك و لا أكثر إلا هو معهم اينما كانوا فينبّئهم بما قالوا و بما عملوا. فهو مؤمن بأنّ اللّه تعالي يعلم نجوي الاثنين بل محادثة الانسان مع نفسه بل ما تخفي الصدور، كما يعلم نجوي كل جمع و تآمرهم علي كل شي ء، و اذا كان الأمر كذلك فما معني النجوي في القول و أيّ أثر لذلك إلا تحريك خيال الآخرين الذين يتناجون عندهم فيحزنون، و ان كان المؤمن باللّه تعالي يعلم ان ذلك لا يضرّه شيئا و ان بيده تعالي ملكوت كل شي ء فينتهي النجوي الي ايذاء الغير، و لذا قال اللّه تعالي:

إِنَّمَا النَّجْويٰ مِنَ الشَّيْطٰانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضٰارِّهِمْ شَيْئاً إِلّٰا بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ عَلَي اللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. فلا ينبغي للمؤمن النجوي بالقول في حضور الآخرين و في

فقه القرآن

(لليزدي)، ج 4، ص: 321

الجمع، سيما مع الذين لهم خطر و شأن و لا سيما مع الأولياء و الولاة.

و لكن مع ذلك قد يحدث أمر يلزم ان يطّلع عليه كبير القوم و أميرهم حتي يأمر فيه بما يصلحهم، و لا يصلح ذكره لدي الجميع فيطّلعوا عليه و يتكلّموا فيه أو يعملوا بما يفسرونه، فلا بأس عندئذ بالنجوي حسب الضرورة، قال تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَنٰاجَيْتُمْ فَلٰا تَتَنٰاجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَنٰاجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْويٰ فتنهي عن النجوي في كل شرّ و إثم، و لا بأس به في الخير و التقوي، ثم تحكم علي الذين نهوا عن النجوي ثم يعودون لما نهوا عنه و يناجون بالإثم و العدوان ان حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير.

فالنجوي بطبعه قبيح مذموم مطلقا لا يناسب كرامة المؤمن و محرّم بنفسه في الاثم و العدوان، زائدا علي ذلك الإثم، و ان كان جائزا احيانا حسب الضرورة في موارد خاصة من مهامّ الأمور مع الأكابر و من بيده الحلّ و العقد، و الضرورات تبيح المحظورات، و قد أمر اللّه تعالي بالكفارة بين يدي النجوي مع الرسول تقليلا لتصوّر الضرورة، فقال: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نٰاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقَةً ذٰلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و لا نفهم في المقام نسخا بقوله تعالي: أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقٰاتٍ الآية. بل سياق التشريع الأرجحية إلا ان تجمد علي صيغة الأمر و لفظ التوبة.

الخامسة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجٰالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللّٰهُ لَكُمْ وَ إِذٰا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا

مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجٰاتٍ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. (المجادلة [58] الآية 11)

تؤدّب الآية أيضا المؤمنين بما لا بدّ من مراعاته في المجالس و الالتفات الي ان للآخرين- أيضا- الحق في المجلس، فاذا قيل لكم تفسّحوا و رأيتم افتقار وارد إليه فافسحوا يفسح اللّه لكم و لا تأخذكم العزّة، و الشأن في الصدر و الذيل، و شرف

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 322

المكان بالمكين، و أيّ شرف يصيب الانسان بجلوسه في الصدر متّكئا و الناس منه في تعب، و العزّة و الرفعة للذين آمنوا، و الذين أوتوا العلم درجات. و نسأل اللّه ان يحفظنا من شرور أنفسنا، فلا بدّ من التفسح كما لا بدّ من القيام و النشوز اذا قيل لهم انشزوا، و ربّ البيت أمير علي الضيف ما دام في بيته، و ذلك لقوله تعالي: وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا.

السادسة- قوله تعالي:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذٰا كٰانُوا مَعَهُ عَليٰ أَمْرٍ جٰامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّٰي يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

(النور [24] الآية 62)

الآية في نهاية الفصل تشتمل علي أمرين: أدب، علي المؤمنين رعايته مع وليّهم و أدب، علي وليّهم مراعاته معهم، فالأول ما ذكر لزوم رعايته علي حد له دخل في صدق الايمان، و هو كذلك، فان الاستيذان من الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و كل حاكم إلهي في أمور حكوميّة جزء من الايمان و قد صرّحت الآية بذلك بمقتضي الحصر و العطف و تكرار الأمر بقوله تعالي: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ

وَ رَسُولِهِ بعد قوله تعالي: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذٰا كٰانُوا مَعَهُ عَليٰ أَمْرٍ جٰامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّٰي يَسْتَأْذِنُوهُ فكانوا في مقام العمل و الاتباع من الرسول علي حد لم يذهبوا الي طريق في المسائل الحكومية و علي أمر جامع من شئون الامّة و المجتمع إلا باذن الحاكم، فلا يتّبعون إلا سبيل اللّه تعالي في إطاعة أوامره و ترك نواهيه و سبيل الحق في متابعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) عند أوامره الحكومية.

و اما الثاني فهو رعاية الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و كلّ حاكم أو آمر إلهي من الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) و نوابهم الخاصّين و العامّين، جانب المؤمنين و ملاحظتهم، فاذا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 323

استأذنوا لبعض شئونهم و كان صلاحا لهم، فعلي الحاكم و الوليّ الإذن، فإنّ مشيّة ذلك مشيته بما هو حاكم يراعي الامّة و شئونهم علي صلاحهم دون مشيته الفردية عن اشتهاء نفسه من غير صلاح الامّة، كما ان علي الولي ان يستغفر للأمّة فيما تخلّفوا و اقترفوا فإن اللّه غفور رحيم، لا ان يتركهم في خوضهم يلعبون.

ج- في علاقة المؤمنات مع المؤمنين، و هم معهنّ:

القرآن الكريم بعد ما يعدّ الرجل و المرأة من نوع انساني، كما هما كذلك بحسب الخلقة و الفطرة، بخطابه اياهما بقوله يا أيها الناس، يا أيها المؤمنون، من عمل صالحا من ذكر أو انثي فلنحيينّه حياة طيّبة و غير ذلك «1» يشير الي ميزة خلقيّة و فصل طبيعي بينهما به صارت المرأة مرأة و الرّجل رجلا، و كل منهما لباسا للآخر و سكينة له، و منه نشأت أحكام خاصّة لكل منهما في شتات الأبواب من الطهارة و الصلاة الي الشهادات و النكاح

و الطلاق، و بالنهاية الحدود و الديات و الإرث و …

و منها في المقام نشير إليها إجمالا؛ و في الباب آيات:

الأولي- قوله تعالي:

الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَي النِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَليٰ بَعْضٍ وَ بِمٰا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوٰالِهِمْ فَالصّٰالِحٰاتُ قٰانِتٰاتٌ حٰافِظٰاتٌ لِلْغَيْبِ … (النساء [4] الآية 34)

تكشف الآية بجملة خبريّة اسميّة عن حقيقة عينية من ان الرّجال بصنفهم النوعي قوّامون علي النساء كذلك، لما في خلق الرّجل من الصّلابة و الصعوبة، و القوة في قلبه و حاسته و أعصابه و شرائر اجهزته الجسمية، حتي الشعور علي جلده و في فؤاده و روحه و ادراكاته. و في خلق المرأة من الظّرافة و اللطافة و الخفّة في كل شي ء منها جسما و روحا، كما أثبتته علوم الأحياء و التجربة العملية، و ذلك ما فضّل اللّه بعضهم علي بعض، و لا ينافي ذلك قوّة فرد من المرأة علي فرد من الرجل حسب

______________________________

(1)- أجمعها و اشملها قوله تعالي: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِمٰاتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ وَ الْقٰانِتِينَ وَ الْقٰانِتٰاتِ … الي قوله تعالي وَ الذّٰاكِرِينَ اللّٰهَ كَثِيراً وَ الذّٰاكِرٰاتِ أَعَدَّ اللّٰهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً». (الاحزاب [33] الآية 35)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 324

خصوصيات فرديّة فيهما أحيانا، و الرجل أقوي في ادراكاته العقلية، و المرأة في عواطفها و احساساتها. و الحياة الانسانية لا تؤمّن إلا بالعقل و العواطف معا، فان العمل راجع الي الثاني و صحته من الأول، و لا يكتفي بأحدهما دون الآخر، كما فصّل في محلّه، فجعل اللّه كلا منهما في كل منهما مع التفاوت حسب ما جعل عليهم من الوظائف الطبيعية من الفعل و الانفعال، و الحمل، و الوضع، و الرضاع و التربية و الوظائف

الشرعية المبنيّة علي تلك الأسس كنفقة الاسرة و قبول المهر و …

و من ذلك كلّه تظهر الحقيقة من ان العيشة و الحياة العائلية و الاسرية و الاجتماعية يقوم بهما الرجل و المرأة، و كل منهما يتصدّي حسب خلقته لسهم، الّا ان الرجال لقوّة تدبيرهم قوّامون علي النساء، و علي النساء لقوّة عواطفهنّ اتباع الرجال في المسائل العقلية و تعديل عواطفهن بهم، كما علي الرجال استدرار عواطفهنّ و استخدامها في هناءة العيشة و عذوبتها مع تعديلها فيها، تحفّظا عن مضارّ اطلاقها من غير حد كما هو ظاهر، و عندئذ فالصالحات من النساء هنّ الخاضعات القانتات لبعولتهنّ الحافظات لما علي الزوجة حفظه من نفسها و ماله و ما يجري بينهما بما هما زوجان.

الثانية- قوله تعالي:

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكيٰ لَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ* وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَليٰ جُيُوبِهِنَّ وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبٰائِهِنَّ أَوْ آبٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنٰائِهِنَّ أَوْ أَبْنٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوٰانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوٰانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوٰاتِهِنَّ أَوْ نِسٰائِهِنَّ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ أَوِ التّٰابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجٰالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَليٰ عَوْرٰاتِ النِّسٰاءِ … وَ لٰا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مٰا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَي اللّٰهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (النور [24] الآية 30- 31)

الآيتان تأمران رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بأن يقول للمؤمنين و المؤمنات يغضّوا من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 325

أبصارهم و يقصروا من نظرتهم بالعين، و كذلك يحفظوا فروجهم «1» أي سوءاتهم- قبلا و

دبرا- فان ذلك أزكي و أطهر لهم من اطلاق العين في النظر، و الفرج في النظر إليه أو العمل به أو فيه، ان اللّه تعالي خبير عالم بما تصنعون و تكسبون بجوارحكم و جوانحكم، و متعلق النظر اللازم الغضّ عنه مستفاد من المقام أي المؤمنين من المؤمنات، و المؤمنات من المؤمنين، و بعد ذلك تنهي المؤمنات عن ابداء زينتهنّ و اظهارها إلا ما ظهر منها بطبعها الاصلي مثل الثياب و الكحل و ما علي الوجه من الألوان الطبيعية، فان الزينة تعمّ ما يتزيّن به من الخارج أو من نفس الخلقة من تناسب الاعضاء، فكل ما يوجب شدّة حسن المتزين زينة؛ فمثل ما يعلّق علي الأذنين أو القلادة أو السوار و الخلخال مما يحرم اظهارها و ابداؤها فانها غير ظاهرة.

ثم يقول الرسول للمؤمنات ان يضربن بخمورهنّ «2» و ما يغطين به رءوسهنّ علي جيوبهن بإسداله علي الصدر أيضا حتي يكون الجيب مغطي مستورا بما يتستر به رأسهنّ فيحتجب الرأس و العنق فجانبا الخدين و الأذنين قهرا، و الجيب؛ و لزوم ستر باقي البدن ظاهر بالأولوية القطعيّة لشدّة الملاك فيه، و الظاهر ان ذلك هو الملاك للاجماع، لا الاجماع ملاك لذلك «3».

فلا تبدي المؤمنات زينتهنّ إلا للمحارم المذكورين في الآية، بعولتهن و آباء بعولتهن و آبائهنّ و ابنائهن و ابناء بعولتهن و اخوانهن و بني اخوانهن و بني اخواتهن و نسائهن أي نساء المسلمات، لتصدق الاضافة، فان الكافرات لسنّ من نسائهنّ، فلا تكرار مع ما ملكت ايمانهن من الاماء دون العبيد، كما يشير العطف بنسائهن علي

______________________________

(1)- الفرج و الفرجة الشق بين الشيئين كفرجة الحائط و الفرج ما بين الرجلين و كنّي به عن السوءة. (مفردات)

(2)- الخمر ستر

الشي ء و يقال لما يستر به خمار، لكن صار في العرف اسما لما يتغطي به المرأة و جمعه خمر قال تعالي: «وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَليٰ جُيُوبِهِنَّ». (المفردات).

(3)- فما هو المتداول بين الموظّفات في المستشفيات أو بعض المؤسسات من جمع شعورهنّ تحت الخمار و تعقيدها عقيب رءوسهنّ فتكون الخدود و الاذان و الأعناق مكشوفة خلاف صريح القرآن و متن الحكم و لا يعد حجابا كما توهم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 326

بني اخواتهن، و قد اشرنا الي نكتة التقييد في كتاب النكاح، فراجع «1». و التابعين من الرجال الذين لا يدركون شيئا من النكاح كالبلهاء التابعين أو الذين لا يحتاجون الي النكاح للخصاء أو الشيخوخة المفرطة، فهم غير أولي الإربة «2» و الطفل الذي لم يطّلع علي عورات النساء.

و ذيلا تنهي الآية- تأكيدا لحرمة ابداء الزّينة- عن ضرب أرجلهنّ علي الأرض حال المشي بوضعها عليها شديدا فيعلم زينتهنّ المخفيّة من الخلخال و شبهه.

و لعلّه يستفاد من ذلك عدم جواز تعطرهنّ و سيرهنّ في الشوارع و الأسواق، و كذلك كل ما يستجلب النظر الي مواضع الزينة فيتعاقبه التخيّل و الشيطان و لا أقل من الكراهة الشديدة، كما لا يخفي، و لعلّ من أجلي مصاديقه أيضا الخضوع في القول المنهي «3».

و قول الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ذلك من قبل اللّه تعالي هو بنفسه أمر اللّه تعالي الواجب اطاعته فان أمر الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أمر اللّه تعالي في مثل ذلك، و من يطع الرسول فقد أطاع اللّه، و أطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول.

و لا يتوهّم بعد ذلك كلّه ان قوله تعالي ذٰلِكَ أَزْكيٰ لَهُمْ يرشد الي رجحان التستر و التحجب لا

الوجوب فان أطهريّة شي ء يساعد علي طهارة ما دونه، و ذلك لأن الاشارة الي حكمة الحكم لا يوجب انصراف الأمر عن الوجوب مع صراحة السياق و التعبير عندنا، أضف الي ذلك التعقيب بقوله تعالي: إِنَّ اللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ و التذييل بقوله تعالي: وَ تُوبُوا إِلَي اللّٰهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

______________________________

(1)- و سيأتي في الآية التالية المبيّنة موارد جواز النظر أيضا.

(2)- الإربة الحاجة الشديدة الي الشي ء الي حدّ الاحتيال، ثم يستعمل في كل منهما منفردا الحاجة أو الاحتيال.

(3)- كما في الآية الرجعة الي نساء النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): «يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسٰاءِ (الي قوله) فَلٰا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ … ». (سورة الاحزاب [33] الآية 32)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 327

ثم ان تناسب الحكم و الموضوع يرشد الي ان علّة ذلك هو منع المجتمع عن اختلاط الرجال و النساء علي وجه يبدو منه الفساد، فتشيع الفاحشة بمراحلها الي الزّنا، فيهوي الي السقوط، لا المنع عمّا هو من عوامل تكامل الأمّة و رقيّ المجتمع، أو من لوازم المعيشة الانسانية من العلم و التجربة و العمل، كل حسب ما يناسبهما مع التحفّظ علي الشرف و السماحة و العفّة، فلا منع لتصدّي النساء تعليم النساء في الدين و الثقافة و علاجهنّ في الأمراض و ما يختصّ بهنّ حال الوضع، أو تعلّم الاطفال الذين لا يظهرون علي عورات النساء و غير ذلك مما لا ينافي مقامهنّ أو حقوق أزواجهنّ و أولادهن كما تعلم، و لا ينافي ذلك مع التزين و التعطّر و التبرّج في البيوت للأزواج فقط مع التحفّظ علي ما ذكر، فان ذلك يوجب تشديد المحبّة و

تحكيم العلاقة العائلية فإن المرأة ريحانة لا قهرمانة.

الثالثة- قوله تعالي:

… وَ إِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ … الي قوله تعالي: لٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبٰائِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰائِهِنَّ وَ لٰا إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ أَخَوٰاتِهِنَّ وَ لٰا نِسٰائِهِنَّ وَ لٰا مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ وَ اتَّقِينَ اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً. (الاحزاب [33] الآية 53- 55)

الآية- كما تري- تأمر ضمن تأديبات عديدة- بالسؤال من النساء من وراء حجاب اذا احتيج الي سؤالهنّ متاعا أو شيئا، فلا بأس بأصل سؤالهنّ و محاورتهنّ علي الحد اللازم إن كنّ محجّبات أو كان الستر مسدولا، فتفيد وجوب التحجّب علي النساء بما عرفت حدوده مع الاشارة الي حكمة الحكم من ان ذلك أطهر للقلوب.

و لا جناح عليهنّ في المحارم فلهنّ المكالمة معهم بلا حجاب، كما لهم المشافهة معنّ كذلك و هم (1) آباؤهنّ و (2) ابناؤهنّ و (3) اخوانهنّ و (4) ابناء اخوانهنّ و (5) ابناء اخواتهنّ و (6) نسائهنّ أي النساء المؤمنات حتي تصدق الاضافة و (7) ما ملكت ايمانهنّ من الاماء- مسلمات كنّ أو كافرات- دون العبيد لما عرفت من وجه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 328

التقييد، و يؤيد الأمر ذكر ما ملكت ايمانهنّ بعد نسائهنّ لا بعد ابناء اخواتهن كما لا يخفي «1».

و من المعلوم ان المورد لا يخصّص، فلا يختص الحكم بنساء النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بل يعمّ نساء المؤمنين أيضا كما تصرّح الآية التالية بذلك.

ثم تؤكد الآية أصل الحكم بالأمر بالتقوي و أنّ اللّه علي كل شي ء شهيد، فهو تعالي يشهد كل منظر و يري كل مرئي، فاتقوه في

محارمه و احذروه في معاصيه، فان النفس أمارة بالسّوء إلا ما رحم الرّب فارحمنا يا ربّنا يا أرحم الراحمين.

الرابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ وَ بَنٰاتِكَ وَ نِسٰاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنيٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلٰا يُؤْذَيْنَ وَ كٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً.

(الاحزاب [33] الآية 59)

تخاطب الآية رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و تأمره ان يقول لأزواجه و بناته و نساء المؤمنين فيما أمرهنّ ان يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ، و الجلباب القميص و الخمار، و إدناؤه عليهنّ ستر أنفسهنّ به، فيرجع الأمر الي وجوب ستر الرأس و البدن بأجمعه كما أوجبته الآية السابقة؛ و ذلك الستر أدني ان يعرفنّ أنّهنّ مؤمنات صالحات فلا يؤذين بانحراف الشبّان الفسّاق «2»، و حكمة الحكم- كما ذكرنا- لا ينافي الوجوب المطلق و اللّه تعالي غفور للمذنبين رحيم بعباده الصالحين.

الخامسة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا

______________________________

(1)- و قد عرفت ذلك في كتاب النكاح.

(2)- و ذلك مثل الحكمة العامة المذكورة في الآية الراجعة الي نساء النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و لعلّه لذلك يشمل الحكم سائر النساء أيضا. قال تعالي: «يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسٰاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلٰا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لٰا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجٰاهِلِيَّةِ الْأُوليٰ» (سورة الاحزاب [33] الآية 32 و 33)، فتوجّه تعرف ما ذكرنا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 329

الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلٰاثَ مَرّٰاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلٰاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيٰابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلٰاةِ الْعِشٰاءِ ثَلٰاثُ عَوْرٰاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لٰا عَلَيْهِمْ جُنٰاحٌ بَعْدَهُنَّ

طَوّٰافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَليٰ بَعْضٍ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللّٰهُ لَكُمُ الْآيٰاتِ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَ إِذٰا بَلَغَ الْأَطْفٰالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللّٰهُ لَكُمْ آيٰاتِهِ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَ الْقَوٰاعِدُ مِنَ النِّسٰاءِ اللّٰاتِي لٰا يَرْجُونَ نِكٰاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنٰاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيٰابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجٰاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (النور [24] الآية 58- 60)

تفيد الآيات- أوّلا- وجوب استيذان من يريد الورود علي الغير كائنا من كان حتي المماليك و الذين لم يبلغوا الحلم بعد ظهورهم علي العورات سيّما في مواقع خاصة هي عورات عادة لما يضع الانسان فيها ثيابه، و في بعضها أكثر، كما في ما بعد صلاة العشاء الي صلاة الفجر و لا سيما للمتزوج. و في الظهيرة وقت الظهر حين تضعون ثيابكم فان الورود بلا اذن قد يوجب النظر الي حيث يجب ستره أو بما ينافي الكرامة. نعم في غير تلك المواقع و الانسان متستر عادة لا جناح علي المماليك و الذين لم يبلغوا الحلم من الذين يعاشرونكم و يطوفون عليكم بكثرة الدخول و الخروج حسب احتياجاتهم و استخداماتكم ان يدخلوا بغير اذن. و لا يدلّ ذلك علي جواز ورود العبد البالغ العزب علي السيّدة الشابة الجميلة و هي مكشوفة في تلك الأوقات فرضا «1» فان ذلك الاستيذان من الأدب و التحفّظ بعد أصل حكم وجوب الحجاب و التستر بوجه عرفت من اختصاص جواز ابداء الزينة لما ملكت ايمانهنّ بالاماء مسلمات كنّ أو كافرات قبال نسائهنّ المخصوصة بالمسلمات، فلا بدّ من التستر عن الكافرات من غير الاماء كما ذكرنا، فلا يشتمل علي جواز دخول المماليك بغير الاذن علي مالكيهم في غير

تلك الأوقات و العبيد علي السيّدات و هنّ

______________________________

(1)- كما عن المحقق الأردبيلي (رحمه اللّه) في زبدته ص 547.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 330

مكشوفات بل عليهنّ التستر أو عليهم الاستيذان قضيّة الجمع بين الآيات.

ثم تمنح الآية تسهيلا علي اللاتي لا يرجون نكاحا من القواعد فلا يرغب فيهنّ بوجه، أن لا جناح عليهنّ أن يضعن ثيابهنّ الظاهرة لا مطلقا ما لم يتبرّجن بالزينة، و مع ذلك ان يستعففن خير لهنّ، فليس لهنّ الانكشاف المطلق كما ليس عليهنّ الاحتجاب الكامل، و اللّه تعالي سميع لما تقولون و عليم بما تعملون.

و الحاصل المستفاد من الآيات وجوب التستر عمّن يطّلع علي العورات تحفّظا علي الكرامة و الانساب، و للمجتمع عن الفحشاء و الابتلاء بالزنا ذلك الذنب العظيم الشرعي و الفطري و العقلائي الذي يحكم عليه و يرده نظام الخلقة و سنة اللّه التي لن تجد لها تبديلا و لا تحويلا. و يري البعض ان عدم التعرّض لما يعمله المسلمون اليوم تأثرا بالغربيين، و تبعا لملوكهم العالين المفسدين في الأرض- و لا سيما في بلادنا- أفضل لأنه لا يزيد إلا همّا، و قليلا ما يؤثر في ايقاظهم و الشعور بمسئوليتهم و ترغيبهم في اقامة الدين و احياء الشرع المبين و محو كلمة الكفر، فيريحون أنفسهم باذكار أو كتب و يتعذرون بعدم تحصّل شرائط الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و ليس المقام بذلك من شي ء كما أشرنا إليه في آخر كتابه، و نسأل اللّه تعالي ان يوفّقنا لمرضاته و يقطع أيدي الظلمة عن مقدّسات الاسلام و شئون المسلمين ان شاء اللّه.

د- في علاقة المؤمنين بعضهم مع بعض:

اشارة

و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي

الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. (التوبة [9] الآية 122)

تفيد الآية حقيقة عقلائية و هي ان الانسان لا بدّ و أن يعيش متعاونا بعضه مع بعض بأن يتصدّي كل منهم لشطر مما تحتاج إليه الامّة فيعطي الآخرين من مجهوده

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 331

و يستفيد من ثمرات جهدهم، فيسيرون جميعا نحو الكمال و الحق و الفضيلة. فما كان المؤمنون لينفروا كافّة في سدّ احتياجات مجتمعهم سيّما الظرائف الدقائق، و لا سيما مثل التّفقّه في الدين و تعلّم معارفه و أحكامه، فلا بدّ و ان ينفر من كل قوم منهم طائفة و يهجروا وطنهم و علاقاتهم الشخصيّة و الاسرية الي موارد العلم و معالم الورود و التخصّص فيتعلموا و يتفقّهوا حتي يحصلوا علي مفتقرات القوم لينذروهم و ليرشدوهم الي الخير و الصلاح و يهدوهم الي سواء الطريق، الطريق السويّ الانساني اذا رجعوا إليهم. فبما انه منهم و يعرف خصائصهم و يعرفونه، فلهم به علائق و له بهم كذلك علائق فهو أوفق و أمكن في إرشادهم الي الحق عن الغير كما هو ظاهر.

و الحاصل ان الآية كما تدلّ علي وجوب تحصيل العلم و الفن في كل ما يحتاج إليه المجتمع الانساني بما هو انسان و ان توقّف علي النفر و الهجرة حتي الي بلاد نائية، و كلما كان ذلك أحوج كان تحصيله ألزم و أوجب مثل التفقّه في الدين و التعرّف علي معالمه و التخصّص في العلوم الاخري كالهندسة و الطب و تعلّم معارفها و مواردها، فان العلم علمان: علم الأديان و علم الأبدان. و قس عليهما فروع كل منها من العلوم و الصنائع … كذلك تدلّ (الآية) علي وجوب الانذار و الإرشاد و

تبليغ الدين، و كذلك وجوب الطبابة و حفظ الأبدان و الصناعة و تأمين احتياجات العباد، كل ذلك علي الكفاية.

و حيث لا يتمكّن كل فرد من تعلّم كل العلوم و التصدي لكل الصنائع، فلا بدّ من التقسيم، فيجب علي طائفة من كل فرقة ان ينفروا فيها، و حيث ان التفقّه في الدين- لا نفس التعلّم فقط- أحوج شي ء تضطر إليه الامّة المسلمة و لا حياة لها بدون الدين و التفقّه فيه، فقد أرشدت إليه الآية اشعارا الي شدّة الوجوب، و قد فطر اللّه تعالي كل فرد الي شي ء من العلقة و الاستعداد حتي يتمّ ذلك في الخلقة أيضا.

و أنت بنفسك تعلم ان ذلك الوجوب بما انه كفائي فهو لا ينافي جواز أخذ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 332

الأجرة عليه حيث ان طبع تلك الواجبات تأمين شطر من احتياجات الآخرين قبال تأمينهم احتياجاته من غير فرق في ذلك ان يكون من طريق بيت المال أو اشخاص الامّة. بل عندنا لا بأس بأخذ الأجرة علي الواجبات العينية بعد تمشي قصد القربة في التعبّديات منها فكيف في التوصليات كما أثبتناه في محله «1».

الثانية- قوله تعالي:

وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ إِلّٰا رِجٰالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ. (النحل [16] الآية 43)

الآية و ان كانت في مسألة النبوّة و كيفية مواجهة الناس لها، إلا انها ترشد الي أمر عقلائي كلي ينطبق علي المبحوث عنه من مراجعة أهل الذكر و سؤال كل موضوع ممّن هو أهله بحيث تعدّ المراجع الي الغير سفيها غير مبال، فكما ان علي الناس في مسألة النبوّة مراجعة أهل الفن حتي يعلموا الحق، فكذلك علي المؤمنين الرجوع الي أهل الذكر من العلماء الاعلام و الفقهاء

العظام في أمور دينهم دون الجبت و الطاغوت و كل من تظاهر بالحق و هو متعاون مع الظالمين، كما انّ عليهم الرجوع في أمور دنياهم الي أهل فنّه في مختلف الشئون، فكما ان رجوع المريض الي البنّاء و الخيّاط بدل الطبيب يعدّ سفها، فكذلك هو الرجوع في معالم الدين و معارفه الي غير أهله، بل لا بدّ فيهم أيضا من مراجعة كل مسألة الي أهلها من الفلسفة و الفقه و الأصول الي دقائق العقائد و ظرائف العرفان، فليس كل عالم ديني يعلم كل فنّ و علم من العلوم الاسلامية، و ليس كلّ من يعلم شيئا من علم عالم به حتي يرجع إليه في حلّ المشاكل بل لقد ظهرت المشاكل من ذلك، و لا يساعد المقام اطلاق القلم في ذلك و ذكر موارده.

الثالثة- قوله تعالي:

______________________________

(1)- و قد أشبعنا الكلام فيه بتفصيل في المسألة السادسة من المسائل التي أوردناها بعد بحث الشرائط في رسالتنا (القضاء في الاسلام) التي عملناها علي طريق الأصحاب، فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 333

وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لٰا تَنٰازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللّٰهَ مَعَ الصّٰابِرِينَ* وَ لٰا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ بَطَراً وَ رِئٰاءَ النّٰاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ بِمٰا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. (الانفال [8] الآية 46- 47)

من المعلوم ان الاسلام يريد لأمّته ان تكون خير أمّة.. تعيش عيشة كريمة علي أساس الوحدة و الاخوة و التعاون و السماحة و العظمة حتي يكون المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضهم بعضا، و يكون كل منهم كالجبل الراسخ ذي عزم ثابت علي الحق لا تحركه العواصف.. اشداء علي الكفّار رحماء بينهم، فشرّع في ذلك السبيل شرائع

و آدابا عرفت كثيرا منها خلال الاحكام و نشير الي بعضها في المقام من جهة النفي و الإثبات؛ فمنها ما أفادت الآية بعد الأمر بإطاعة اللّه و رسوله- كما في موارد كثيرة- النهي عن التشاجر و التنازع فان ذلك يوجب الفشل و الوهن و يذهب الكرامة و السماحة، و روح العظمة و ريح الشّرف، فهو ينشأ من اثارة الانفعالات و غلبة الغضب علي العقل و الايمان، فليس للمؤمن التنازع في كبائر الامور فكيف بصغائرها، و كرامته أعظم شي ء يصاب فيه «1».

و منها أيضا في ناحية السلب ما تفيده الآية الثانية؛ و النهي عن مماثلة الذين خرجوا من ديارهم بطرا و رئاء الناس تأكيد النهي الأول، فان اساس المنازعات بين الاخوة المؤمنين هي تلك الأمور في الغالب كما تعلم.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا* وَ لٰا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبٰالَ طُولًا* كُلُّ ذٰلِكَ كٰانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً. (الاسراء [17] الآية 36- 38)

______________________________

(1)- و المورد لا يخصص و ان كان التنازع حول بعض مسائل الجهاد و لا سيما في تقسيم الغنائم، بمقتضي السياق و علي المؤمن الصبر علي بعض الأمور و الحذر من التنازع كما عليه الحذر من البطر و الرياء و الصدّ عن سبيل اللّه كما هو ظاهر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 334

الآية- كما تري، ضمن أوامر و نواه ايجابية و تحريمية مما ذكرناها في أبوابها- تنهي عن الاقتفاء «1» و تبعيّة ما ليس لك به علم، فان اتّباع غير المعلوم في القول أو العمل يقتفيه الشرّ و الضرر غالبا، و يورث

التنازع و التشاجر، فليس للمؤمن ان يقول أو يعمل بما لا يعلم، و لا اختصاص باتّباع ظن خاص أو عمل مخصوص من الغيبة أو الحكم بالنسب علي القيافة فانهما من المصاديق، إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا.

و تنهي بعده عن المشي علي الأرض مختالا فرحا متبخترا، مشيرة الي ضعف الانسان، و انك لن تخرق الأرض بقوّتك- كائنا من تكون- و لن تبلغ الجبال طولا، فان تثقيب الأرض أو تخريب قطعة منها باستخدام أجهزة خاصّة و بمعونة قوي الطبيعة هي جنود السّماوات و الأرض للرّب تعالي، و كذلك المشي علي قمم الجبال هو غير التسلّط علي الأرض و الجبال و النفوذ فيها بصورة أساسية و رئيسية. فعلي المؤمن باللّه تعالي بعد ادراكه انّه مخلوق له تعالي محكوم للنظام محبوس في العالم محدود بحدود الوجود، بيد الفيّاض القيّوم تعالي؛ ان يحفظ نفسه قولا و عملا فلا يقول و لا يعمل بما ليس له به علم و ان لا يتكبّر فيمشي علي الأرض فرحا فخورا، فان ذلك كلّه منفور مردود. و تري ذلك البحث في مواعظ لقمان أيضا في الآية التالية:

الخامسة- قوله تعالي:

وَ لٰا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّٰاسِ وَ لٰا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتٰالٍ فَخُورٍ* وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوٰاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ. (لقمان [31] الآية 18- 19)

خلال مواعظ لقمان و بعد بيان أصل كلي ثابت و حقيقة عينيّة قاطعة من ان الأعمال خيرا أو شرّا و ان تكن مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات

______________________________

(1)- الاقتفاء أخذ القفاء و تبعيّته.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 335

أو في الأرض يأت بها

اللّه ان اللّه لطيف خبير. يتحدّث القرآن الكريم عن أمور كثيرة من بينها إقامة الصلاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الصبر علي النوائب و الحوادث مما يصيب الانسان، فان ذلك من عزم الأمور.

ثم ينهي عن تصعير الخدّ للناس و تحقيرهم بصرف الطرف عنهم فيميل عنقه «1»، كما ليس للمؤمن اذلال نفسه و تحقيرها لدي الآخرين فان له سماحة و كرامة لا بدّ و ان يحافظ عليها. فالاستقامة هي ان لا يتكبّر فيمشي علي الأرض فخورا مرحا رافعا صوته متغطرسا- بل يمشي علي الأرض هونا مقتصدا و يغضض من صوته فيقصر من ندائه فان أنكر الأصوات لصوت الحمير- كما ليس له في القصر و الغضّ ان يبالغ فيناجي فان النجوي من عمل الشيطان تنبثق عنه الوساوس كما مر الكلام فيه.

و الأصل ان الانسان اذا أدرك ان اللّه تعالي هو الذي سخّر للناس ما في السموات و ما في الأرض و أسبغ عليهم نعمه الظاهرة و الباطنة، و هو الذي يأتي بالعمل أيّا كان و اينما كان فيجازي به وفاقا، لا يخضع إلّا للّه تعالي و لا يخاف إلا منه، فيعيش مع عباد اللّه علي صفاء و هناءة من غير تكبر و لا احتقار فلا يصرف نظره عنهم برأسه و لا يصعّر خدّه و يمشي علي الأرض هونا مغترا فخورا، و يتكلم مع الناس علي وقار فلا يجاهر و لا يخافت و يبتغي بينهما سبيلا. اللّهم وفّقنا لما تحب و ترضي و اصرفنا عمّا لا تحب آمين ربّ العالمين.

السادسة- قوله تعالي:

وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً. (النساء [4] الآية 86)

الآية أيضا في سبيل المحافظة

علي كرامة الامّة، توجب أدبا آخر هو السّلام و التحية، أي طلب الخير و الحياة حال المزاورة و الملاقاة، فيحيي كل الآخر تحيّة

______________________________

(1)- الصعر ميل في العنق و التصعير إمالته عن النظر كبرا. (المفردات)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 336

بطلب الحياة و الخير من اللّه تعالي بأيّ تعبير و أقلّه السّلام، و لا بدّ من ردّها بأحسن منها و لا أقل بمثلها، فتدلّ علي أصل وجوب ردّ التحيّة، و بالأحسن أفضل، كما ورد عن الامام الصادق (عليه السّلام) السّلام تطوّع و الردّ فريضة، و لذلك يجب حتي في الصلاة. و عندنا يحيط الاطلاق كل ما يصدق عليه التحيّة من القول أو العمل بما هو المتعارف بين الأقوام ما لم يردع عنه الشرع، و ردّ التحية لمن حيّي سيّما بالأفضل يقوّي روابط الأفراد و يوثق علائقهم بعضهم مع بعض فيعيشوا متعاونين متكاملين الي سبيل اللّه.

السابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّٰي تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَليٰ أَهْلِهٰا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهٰا أَحَداً فَلٰا تَدْخُلُوهٰا حَتّٰي يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكيٰ لَكُمْ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. (النور [24] الآية 27- 28)

تنهي الآية أيضا- في سبيل حراسة السماحة و الكرامة- عن دخول بيوت الآخرين بلا اعلام و استيناس، و تأمر بالسلام علي أهل البيت «1» بعد الورود باعلام و استيناس فعلي الوارد السّلام «2» و التحيّة و علي المورود ردّ تحيّته بمثله ان لم يكن بأحسن، و ذلك خير. و اما اذا لم يكن في تلك البيوت أحد، أو لم تجدوا فيها أحدا، و لو كان، و لم يجبكم لغرض، فلا تدخلوها إلا ان

يؤذن لكم من صاحب البيت أو ممّن له الولاية عليه فان ذلك تصرّف في ملك الغير بغير اذنه، و كذلك اذا قيل لكم ارجعوا فارجعوا و لا تدخلوا و اعلموا ان اللّه تعالي عليم بما تعملون من الورود بلا

______________________________

(1)- بل السلام علي أنفسكم بقولكم مثلا السلام علينا و علي عباد اللّه الصالحين فان ذلك دعاء و بركة من اللّه.

قال تعالي: «فَإِذٰا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَليٰ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ مُبٰارَكَةً طَيِّبَةً» (سورة النور [24] الآية 61)، و قال تعالي: «وَ إِذٰا جٰاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِنٰا فَقُلْ سَلٰامٌ عَلَيْكُمْ» (سورة الانعام [6] الآية 54).

(2)- الآيات تعلّم أدبا للمسلمين بأن يكون أقل تحيتهم السّلام لا الاكتفاء بالاشارات كرفع اليد و امثاله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 337

اذن أو معه و الرجوع و عدمه و مقاصدكم في ذلك كلّه.

نعم، لا جناح عليكم ان تدخلوا بيوتا غير مسكونة بغير اذن و لكم فيها متاع أو شغل أو منفعة كالمساجد و المدارس و المتاجر و ما يعبّر عنها بالأمكنة العامة التي لكل أحد ان يستمتع بها فيجوز دخولها بلا اذن.

فرع:

و لعلّك يخطر ببالك جواز دخول أمناء الحكومة الحقّة و ولاة الأمر بيوت الناس بغير اذنهم تحفّظا علي مصالح الأمّة و منافع الشعب المسلم في شرائط خاصة يظن ان في تلك البيوت يخطط لمؤامرة و كيد و خيانة مثلا- كما يعمله اليوم موظفو الحكام الجائرين باسم رجال الأمن و يعملون ما تضطرب النفس و تخجل بذكر بعضها لعنهم اللّه و قطع أيديهم عن شئون المسلمين «1»، و لا يبعد ان يكون كذلك، بل هو كذلك في مواقع خاصة يراها الحاكم الاسلامي علي شعاع حكومته، فان النبي (صلّي اللّه عليه و

آله و سلّم) أولي بالمؤمنين من أنفسهم كما عرفت في كتاب الولاية- و المنصوب من قبل الحاكم حاكم علي حدّه كما تعلم- و ليس جواز الدخول بغير الاذن عند المصلحة جوازا لكل أمر، بل لا بدّ من رعاية تمام الحدود و الأحكام في تمام الجهات و الشئون، و بذلك قلما تنتهي الضرورة الي الورود بغير الاذن، و علي النهاية بغير الرضا بعد الاعلام و المراقبة.

الثامنة- قوله تعالي:

يٰا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ. (الأعراف [7] الآية 31)

و في انتهاء بحث التحفّظ علي كرامة الأمّة الاسلامية و التحرك نحو الكمال و الفضيلة في الناحيتين الظاهرية و الباطنية، تنادي الآية بني آدم و تأمرهم باتخاذ الزينة عند إرادة المسجد و المعبد بان يكونوا طاهرين متزيّنين، فان المساجد

______________________________

(1)- كما عملوا باستاذنا الأعظم و بنا و باصدقائنا و بكثير من أفاضل الحوزة العلمية، و بالأحرار المدافعين عن الحرية و الفضيلة و الاسلام.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 338

و المعابد مراكز تجمّع العباد و تلاقي المؤمنين و تزاورهم، و اللّه تعالي يحبّ ان يري عباده علي نعمه متحدّثين، قال تعالي: وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ و ذلك الأمر للعباد و بني آدم، فعلي المؤمنين بطريق ألزم. و ذكر المسجد لا يختصّ بالمؤمنين فان الآية عندنا حسب الملاك تفيد الأمر في كل زيارة للاخوان و ملاقاة للمؤمنين، بل و عند الخروج عن البيت مطلقا، فعلي المؤمنين التزيّن حسب شأنهم و امكاناتهم المشروعة عند إرادة المسجد أو زيارة النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو الامام (عليه السّلام) أو ملاقاة العلماء الاعلام، و مواجهة الاخوان الكرام، و مشافهة كل انسان، و بالجملة عند إرادة الخروج من البيت قُلْ مَنْ حَرَّمَ

زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ و سخّر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا.. و حلية تلبسونها كما مرّ، و المسجد قد ذكر لما هو ملتقي المؤمنين بصورة أكثر.

و اللازم ما يصدق عليه التزيّن و اتخاذ الزّينة حسب تعارف الأقوام و البلاد من أنواع الألبسة و تمشيط الشعور و التدهين و التعطّر و أمثال ذلك ما لم يردع عنه الشرع من التشبّه بالأعداء.

ه- في خصائص الشعب المؤمن:

الشعب المسلم و الأمّة الاسلامية مثل كل شعب و أمّة لها حياة و ممات، غير حياة الفرد و مماته، باعمال شائعة فيها، و ترقي بأوصاف يتّصفون بها، و كذلك تضعف و تنحط فتموت أيضا بأعمال و أوصاف، و الاسلام يوجد و يصنع برغبة مفرطة و إرادة مؤكدة أمّة و مجتمعا متحرّكا علي الكرامة و السماحة الي حد أوحي اللّه تعالي الي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): طه، مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقيٰ إِلّٰا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشيٰ، و يوصي بالمكارم و الفضائل و يؤكد و يوجب اعمالا و أوصافا أو ينهي عن قبائح و رذائل، نشير الي بعضها بعد الواجبات و المحرّمات التي عرفتها في أبوابها و في الفصل آيات.

الأولي- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 339

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَي الْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً سِيمٰاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَويٰ عَليٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّٰاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّٰارَ وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً. (الفتح [48] الآية 29)

الآية- كما تري- توضيح و بيان لحالات المؤمنين و انهم متّفقون علي مسألة

رئيسية في الأمور الأصولية الاعتقادية «1» و هي انّ محمدا (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) رسول اللّه؛ فكلما يأمر و ينهي فهو من قبل اللّه تعالي عن طريق الوحي، و ما ينطق عن الهوي.

و اما الذين معه من المؤمنين باللّه تعالي و اليوم الآخر فهم أشدّاء علي الكفّار لا يأخذهم في دين اللّه لومة و لا رأفة الي حدّ المقاتلة، فيقتلون و يقتلون اذا كان عليهم ذلك، رحماء بينهم يرأف القويّ منهم علي الضعيف و الغنيّ منهم علي الفقير و الأمير الرئيس علي المأمور المرءوس، فالشعب المؤمن متراحم، و ان تنظر إليهم تراهم ركّعا سجّدا يصلون و يقيمون الصلاة أيضا فيخضعون و يسجدون للّه تعالي، و يبتغون من ذلك كلّه فضلا من اللّه تعالي و رضوانا من غير رئاء للناس و خضوع لغير اللّه تعالي، و يعلم ذلك من سيماهم، و الانسان يعلم من جبهاته و ظواهره و فلتات لسانه كثيرا ممّا في قلبه و أفكاره سيما من كان من أهله، كما فصّل في العلوم النفسيّة.

و كيف كان، ذلك مثل المؤمنين في التوراة يحكيه القرآن الكريم و يمثلهم علي لسانه هكذا، و اما تصويرهم في الإنجيل فان الذين مع الرّسول من الشعب المؤمن كزرع نما و بلغ في الرّشد و الكمال الي حدّ اخرج بذوره و حبوبه و نشر في جوانبه و شواطئه فقوي و آزر فاستحكم بشدّ أزاره فاستغلظ فاستوي علي سوقه و اقام صلبه بوجه يعجب الزرّاع من قوته و استقامته و شدّة حيويته و فرط عمله في التزايد و تكثير

______________________________

(1)- و لقد تعرضنا لتلك الأصول في رسالتنا (اسس الايمان في القرآن) فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 340

المثل، فان المؤمن الذي

مع الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و مع مدرسته و شريعته الاسلامية يقوّي نفسه شيئا فشيئا من روح الايمان و فيض القرآن حتي يستقلّ بنفسه فيأخذ في ارشاد الآخرين و إحياء ابناء آدم الذين يعيشون حواليه و في دائرة حياته ببذر اصول المعارف و اساس الدين علي مستوي قابليّتهم في نفوسهم، و تبليغ الأحكام و اجراء الحدود، فكل فرد منهم يستقل بنفسه و يستوي علي سوقه فهو يعمل و يتحرك في ساحة عيشه حتي يحيي الآخرين و يرشدهم الي الحق، ليغيظ بهم و بجمعهم الكفار و المعاندين، وَ تِلْكَ الْأَمْثٰالُ نَضْرِبُهٰا لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ … وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً.

هذا هو حال الذين آمنوا معه، و اذا كانوا كذلك، فكيف يمكن ان يتسلّط عليهم الكفّار فيهبطوا الي حدود مخجلة و ينزلوا منازل بشعة؛ و يا للاسلام و القرآن من الذين فرّقوا بين الناس و كتابهم و جعلوهم يكتفون بقراءة بعض الآيات للأموات و باستماع الألحان و الأصوات فقط. اللّهم اجعل منّا أمّة صالحة و شعبا صالحا حيّا منذرا و خير أمّة تفقه القرآن و تعمل بالحدود و الأحكام ان شاء اللّه.

الثانية- قوله تعالي:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذٰا ذُكِرَ اللّٰهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذٰا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيٰاتُهُ زٰادَتْهُمْ إِيمٰاناً وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الانفال [8] الآية 2)

تشير الآية بأداة الحصر تأكيدا الي أظهر أوصاف المؤمنين و انهم هم الذين اذا ذكر اللّه و جلت قلوبهم تجاه عظمة اللّه و قدرته و ازاء شعورهم بضعف أنفسهم و ادراكهم انّهم معلولون محكومون في نظام الخلقة و نواميس الفطرة، فليسوا بأنفسهم في شي ء، و اذا تليت عليهم آياته من الخلق

و الأمر مما في السموات و الأرض و في أنفسهم، زادتهم ايمانا و يقينا و اطمئنانا، فعلي ربّهم يتوكلون، و به يعتمدون، و الصلاة في مجتمعهم قائمة علي صلبها ظاهرة بمظاهرها في شتات و جهات معيشتهم، و ممّا رزقناهم ينفقون، اولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 341

عند ربّهم و مغفرة و رزق كريم.

الثالثة- قوله تعالي:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أُولٰئِكَ هُمُ الصّٰادِقُونَ. (الحجرات [49] الآية 15)

الآية أيضا- مع أداة الحصر و التأكيد- تشير الي ناحيتي العقيدة و العمل في الشعب المؤمن و الامة المؤمنة و انهم الذين يؤمنون باللّه و رسوله علي حدّ لا يعرض لهم الشكّ و لن يعتريهم الارتياب في ناحية الاعتقاد و التفكّر، و يجاهدون و يسعون في سبيل اللّه و طريق الحق من غير توان و تأنّ بأموالهم فيما احتيج إليها، و بأنفسهم في الجهاد بالمعني الخاص كما عرفت في محله.

و عندنا ذلك أظهر خواص الشعب المؤمن و أجمعها في جميع الجوانب، و ذلك الشعب هو الشعب الحيّ الخالد القائم علي قوائمه من غير اتّكاء علي الآخرين، فلا يستخدمهم الاعداء بل هم الوارثون للأرض، الحاكمون عليها المستخدمون سائر الأقوام في طريق الحق. و قريب منها آيات أخر.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَي الْأُخْريٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. (الحجرات [49] الآية 9- 10)

تخبر الآيات عن الشعب المؤمن و انّهم اخوة كأنّهم

ولدوا من أم واحدة تكفّلتهم و ربّتهم في حجرها.. حجر الايمان و الوحدة و الصفاء و الاخوة و الحق. فهم اسرة واحدة يعيشون في بيت واحد علي نظام واحد و يسعون الي غرض و هدف واحد، و من أجل تلك الوحدة و كرامة الاسرة، اذا ظهر فيهم الخلاف و التشاجر فعليهم الاصلاح علي الحق و القسط و العدالة برعاية حقوق الطرفين في ظلال حدود

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 342

اللّه تعالي لئلا يتّسع نطاق النزاع فيذهب ريحهم و يفشلوا. و يلزم الاصلاح ذلك الي درجة ان بغت احداهما علي الاخري فلا بد من مقاتلة الباغية حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ و حكمه و حفظ حدود الأخوة. فعليهم ان يحقوا الحق و يبطلوا الباطل.

الخامسة- قوله تعالي:

فَمٰا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتٰاعُ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ وَ أَبْقيٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ وَ إِذٰا مٰا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ* وَ الَّذِينَ اسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُوريٰ بَيْنَهُمْ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَ الَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ* وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا. (الشوري [42] الآيات 36- 40)

الآيات- كما تري- في سياق بيان آيات اللّه تعالي و موقف الانسان تجاهها، حتي ينتهي الي بيان واقع ثابت و هو ان ما أوتيتم من شي ء- كائنا ما كان من النعم- فهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به، و ان هو إلا غرور، و لكن ما عند اللّه خير و أبقي.

و عندئذ فالشعب المسلم المؤمن هم الذين يتّبعون تلك النعم الباقية و هي للمؤمنين المتوكلين علي ربّهم طول حياتهم، الذين لا يرون شيئا من أسباب العالم و مسبباتها إلا

وسائط و وسائل، و بيده تعالي ملكوت كل شي ء، و كل شي ء يعمل بإرادته و قدرته. و الشعب المؤمن لعلمه و ايمانه بذلك لا يتكئ علي شي ء، و هم علي ربهم يتوكلون، و عن الكبائر و الفواحش من الاثم يجتنبون، و اذا غضبوا من أمر يسترون عليه و يغفرون فيكظمون غيظهم و يسكنون غضبهم، و هم الذين يستجيبون ربهم فيجيبون دعوة اللّه تعالي إيّاهم الي الخير و الحق فيعملون بما أمروا و ينتهون عمّا نهوا عنه و يقيمون الصلاة علي صلبها بعد ما يقرءونها بأنفسهم فردا فلا يضيعونها في المجتمع لا يعتني بها و بآثارها كما كان يفعل مدعو الاسلام «1».

______________________________

(1)- من أمثال الشاه البهلوي و أيّ اسلام و لم يبق منه إلا الاسم، و أيّ اسم و أكثر شباب المسلمين لا يصلّون و لا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 343

ثم ان المؤمنين أمرهم شوري بينهم، فهم في الموضوعات يتشاورون و يتعاونون بعقولهم و أفكارهم فيشخّصون ما هم فيه يختلفون، و بعد التعين بأجمعهم يعملون علي الوحدة في سبيله، حتي المخالفين منهم حذرا عن التفرّق و الفشل، و مما رزقناهم في سبيل الخير و الحق ينفقون «1» و كذلك الشعب المؤمن اذا أصابهم بغي منهم أو من عدو فهم ينتصرون و يتظاهرون و بتظافرهم يدافعون لا انهم بوهن و توان يخذلون و اذا غلبوا علي العدو أو الباغي فيجزون السيّئة سيئة مثلها فهم يعدلون و لا يظلمون.

السادسة- قوله تعالي:

… قٰالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤٰالِ نَعْجَتِكَ إِليٰ نِعٰاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطٰاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَليٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ. (ص [38] الآية 24)

الآية- كما تري- بعد بيان حكم داود النبيّ (علي نبينا و آله

و عليه السلام) بالحق و العدل و انه ظلم بسؤال نعجة الي نعاجه- تشير الي أمر كلي و هو ان كثيرا من الخلطاء المعاشرين في أيّ زمان ليبغي بعضهم علي بعض، و ان هذا طبع الناس المعتكفين علي الدنيا و حطامها، ثم تستثني الذين آمنوا و عملوا الصالحات؛ فالشعب المؤمن هم الذين لا يبغي بعضهم علي بعض في معاشراتهم و اختلاطاتهم فلا يظلمون و لا يظلمون و هم يعدلون.

السابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مٰا لٰا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لٰا تَفْعَلُونَ. (الصف [61] الآية 2- 3)

______________________________

- يصومون سيما الجامعيين و الموظفين فهم تاركوها أو مضيعوها، و أكثر الذنب علي عاتق الملك المخذول خذله اللّه بكفره.

(1)- و من المعلوم ان الانفاق لا بدّ و ان يكون من الطيبات مما يحبون، قال تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا كَسَبْتُمْ وَ مِمّٰا أَخْرَجْنٰا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لٰا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ» (البقرة [2] الآية 267)، و قال تعالي: «لَنْ تَنٰالُوا الْبِرَّ حَتّٰي تُنْفِقُوا مِمّٰا تُحِبُّونَ وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللّٰهَ بِهِ عَلِيمٌ» (آل عمران [3] الآية 92).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 344

تخاطب الآية المؤمنين و تسألهم تحضيضا: لم تقولون ما لا تفعلون؟! و المؤمن حقّ الايمان اذا قال بحق يعمل به و يري ان القول بلا عمل مقت و ذنب كبير، فالشعب المؤمن هم الذين يعملون كثيرا بالخير و الحق و يقولون قليلا، فان الأصل المنتج العمل، و القول لا وقع له إلا بما انّه عمل تبليغي له أثر، فله وقع بما انه عمل لا قول، و الشعب المؤمن حقّا عمليّ لا قولي.

الثامنة- قوله تعالي:

يٰا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسيٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لٰا نِسٰاءٌ مِنْ نِسٰاءٍ عَسيٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لٰا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لٰا تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمٰانِ. (الحجرات [49] الآية 11)

تخاطب الآية المؤمنين و تنهاهم عن سخرية قوم من قوم لا بالقول و لا بالعمل الذي يقهر الآخر انفعالا. و لعلّ الساخر أضعف و أوهن، و توهين الآخرين قبحه ظاهر، و لا فرق في ذلك بين الرّجال و النساء، و لا يسخر نساء من نساء لعلهنّ خير، فالشعب المؤمن لا يسخر بعضهم من بعض بوجه، كما نهم لا يلمزون، فلا يتتبعون معايبهم ليذكروها اغتيابا. و اللمز بنفسه مذموم لا يري في الشعب المؤمن- انتهي الي الغيبة أو لا- فهو ينافي السماحة و الكرامة؛ و الانسان لا يخلو من عيب. و كذلك التنابز بالألقاب الشنيعة فان المؤمن لا يؤذي أخاه المؤمن حتي بالتلقيب و لا يسخر و لا يلمز و لا ينابز بالألقاب، و في ذلك أيضا قال تعالي: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (الهمزة [104] الآية 1)، فان همز الغير و تعييره بذكر معايبه و لمزه بتتبع قبائحه و تصفح نواقصه ينافي كرامة الشعب و عظمته المطلوبة. و قد جعل اللّه تعالي للذين يتّبعون عيوب المؤمنين المصدقين تطوّعا- ظنا منهم ان ذلك ينزل منزلتهم- عذابا أليما، فقال تعالي: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقٰاتِ … الي قوله تعالي وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (التوبة [9] الآية 79).

التاسعة- قوله تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 345

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَليٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ. (الحجرات [49] الآية 6)

و في نهاية

البحث نعطف أمرا آخر في مجتمع المسلمين و الشعب المؤمن و هو أنّ الامّة المسلمة لا تتبع كل نبأ و خبر و لا تعمل بكل قول و أثر، قبل ان تبيّن واقعيّة الأمر و مشروعيته، فلا يعملون بلا تحقيق لئلا يصيبوا قوما أو امرأ بجهالة فيصبحوا علي ما فعلوا نادمين و لا ينفع الندم.

و قد استدلّ القوم بذلك علي حجّية خبر العادل، بتقريب ان نبأ الفاسق المحتمل في حقه الكذب هو الذي لا يعتمد عليه و لا يعمل به حتّي تبيّن صدقه، و اما العادل بل غير الفاسق- لو قلنا بالواسطة- فيعمل بخبره به من غير توقّف علي التبيّن. و عندنا العمل بقول الثقة العقلائي عقلائي لا يحتاج الي تكلّف الاستدلال بالآية، و هي ترد علي خبر الفاسق و انه لا يعمل به، و أين ذلك من حجيّة خبر العادل إلا علي مفهوم الوصف، و ليس ذلك لو كان علي حد ثبت به مثل المسألة. و دليل اعتبار خبر العادل كما عرفت بناء العقلاء أيّا كان مبناهم.

نتيجة الأبحاث

1- المؤمن و والديه:

الأول: يجب علي كل مؤمن الاحسان الي والديه بان يصاحبهما علي وجه يصدق انه محسن إليهما عرفا علي اختلاف شرائط الزمان و المكان و الولد و الوالدين.

الثاني: يحرم الإساءة الي الوالدين و ايذاؤهما من كل ما يصدق عليه ذلك عرفا.

الثالث: لا طاعة للوالدين في الشرك باللّه تعالي و معصيته و في كل باطل و حرام بل و في كل ضرر يستقل به العقل أو يحكم به العقلاء.

الرابع: أقلّ مدة الحمل ستّة أشهر يستفاد من مقارنة الآيتين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 346

2- المؤمن و أسرته:

الأول: ان من الأموال و الأولاد و الأزواج عدوّا يلهي الانسان عن ذكر اللّه، يجب التحرّز عنهم كما يجب العمل فيهم صالحا حتي يكونوا باقيات فيضاعف الأجر و الثواب.

الثاني: يجب صلة ما أمر اللّه به ان يوصل: الرحم، الأقرباء، الاخوة المؤمنين، المرابطين، المجاهدين، العلماء الصالحين، كفاية و في الجملة.

الثالث: يحرم قطيعة الرحم بتركهم و ترك مراودتهم و مزاورتهم فلا بدّ من معاونتهم علي كل خير و سعادة و تقويتهم في الايمان و الهداية و تأمين احتياجاتهم في الدنيا و الآخرة حسب ما يقتضيه المتعارف بين الامّة المسلمة.

الرابع: لا يجوز مواصلة الأرحام و غيرهم بالحرام أو ما يستلزم ذلك و لو بترك الواجب كما في العوائل غير المبالية بالدين.

3- المؤمن و شعبه:

ألف- أمير المؤمنين و وليّهم معهم:

الأول: يجب علي وليّ المؤمنين انذار العشيرة و الأقربين- أوّلا- ثم توسعة النطاق شيئا فشيئا حتي لا يبقي علي الأرض من الكافرين ديّار أو يصيروا مؤمنين.

الثاني: يجب علي وليّ المؤمنين و رئيسهم خفض الجناح لهم و الرأفة و الرحمة عليهم.

الثالث: يجب علي وليّ المؤمنين التبرّي و الانقطاع عن الكفّار و المعاندين لئلا يضروا المسلمين شيئا، فيراقبهم لتنحصر الروابط بما تفيدهم، و ينقطع عمّا يضرّهم، كما ذكرناه في كتاب الجهاد أيضا.

الرابع: يجب علي أولياء الأمور دعوة الناس الي سبيل اللّه بأيّ طريق ممكن، و كلا بوجه يناسبه من الحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال الأحسن، فعليهم تهيئة كل ما يناسب، و تسبيب كل سبب يساعد علي تكامل الأفراد في طريق الهداية

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 347

و سبيل اللّه من المكتبات و المدارس الي الكليّات و الاحتفالات و الاذاعات السمعية و المرئية و الجرائد و الفنون و غيرها من أدوات الثقافة و الدعاية و التبليغ و الاعلام.

باء- المؤمنون مع وليّهم:

الأول: يجب إطاعة وليّ الأمر و متابعته في أوامره الحكوميّة و ارشاداته الي أوامر اللّه تعالي و نواهيه حسب المصداق.

الثاني: يجب اداء الفرائض المالية من الخمس و الزكاة و غير الواجب من الصدقات الي الوليّ الشرعي ليصرفها في مصارفها و يجعلها في مواردها و هو الأعرف بها.

الثالث: يجب خفض الصوت عند رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و الائمة المعصومين (عليهم السّلام) و العلماء و الامراء و الولاة من قبلهم، فلا جهر بالقول و لا خفاء بالكلام، بل بين ذلك سبيلا.

الرابع: لا بدّ من الصبر حتي يخرج الوليّ من بيته إليهم لا عن ندائه من وراء الجدار و الستر، عند قصد زيارته و لقائه فان ذلك (الصبر

و المراعاة) أدب و خير و تحفّظ عن حقوق المجتمع.

الخامس: لا يجوز الورود علي الولي و الأمير و كل مؤمن بل كل مورد بغير اذنه في المساكن الخاصّة.

السادس: لا ينبغي النظر بوجه التفحص و التفقد الي الاناء و أثاث البيت بعد الورود مع الاذن علي الطعام أو غيره بل مطلقا.

السابع: ينبغي الانتشار و الخروج بعد ما طعموا من غير استيناس للحديث عند ما كان الدخول للاطعام و كذلك ترك كل ما يؤذي ربّ البيت المضيّف فانه يستحيي غالبا.

الثامن: علي المؤمنين الاستيذان من الوليّ و الحاكم الشرعيّ في كل أمر يرجع الي مجتمع الامّة من مختلف شئون حياتهم الاجتماعية و المسائل الحكومية،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 348

و علي الوليّ أن يأذن لهم في بعض مصالحهم عند ما يستأذنونه. ليهديهم اللّه تعالي بأجمعهم الي الخير و الحق ان شاء اللّه.

التاسع: سؤال الطعام عن أهل بيت المضيف لا بدّ و ان يكون من وراء حجاب.

العاشر: التناجي قبيح في الاثم و حرام، و قد يجوز في البر حسب الضرورة.

الحادي عشر: لا بدّ من التفسّح في المجالس ارتياحا للآخرين، كما لا بدّ من النشوز و القيام أي الخروج اذا أمر به ربّ البيت.

جيم- المؤمنات مع المؤمنين و هم معهنّ:

الأول: الرّجال قوّامون علي النساء، فعليهنّ الاتباع منهم في التدبير و عليهم الانتفاع منهنّ في العواطف دون تركهنّ معطّلات.

الثاني: يجب علي كل مؤمن و مؤمنة غضّ نظره عن الآخر، كما يجب عليها حفظ الفرج و السّوءة.

الثالث: يحرم علي المرأة ابداء زينتها و اظهارها إلا ما ظهر منها من الثوب و ما علي الوجه من الألوان الطبيعية دون غيرها.

الرابع: يجب علي المرأة ضرب خمارها علي جيبها بإسداله حتي تستر صدرها بما يتستر به رأسها فيجب ستر الأذنين و

العنق و جانبي الخدين الي الجيب و الصدر كما يجب ستر باقي البدن بما يصدق عليه ستره.

الخامس: لا بأس علي المرأة في ابداء زينتها علي طوائف خاصة اثني عشرة:

1) البعل 2) أبي البعل 3) ابنه من زوجة اخري 4) الآباء 5) الابناء 6) الاخوة 7) ابناء الاخوة 8) ابناء الاخوات 9) النساء المؤمنات 10) الاماء المملوكات- مؤمنات كنّ أو كافرات 11) الرجال التابعين غير أولي الاربة كالبلهاء و الشيوخ الكهلة 12) الاطفال الذين لا يظهرون علي عورات النساء.

السادس: لا يضربن النساء علي الأرض بأرجلهنّ عند المشي لئلا يعلم ما يخفين من زينتهنّ، و كذلك كل ما هو كذلك كالتعطّر عند الخروج من البيت.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 349

دال- في علاقات المؤمنين بعضهم مع بعض:

الأول: يجب علي المؤمنين ان يتصدي كل منهم لأمر من أمور الأمّة كفاية مع رعاية الأهم فالأهم.

الثاني: يجب علي كل طائفة من قوم ان ينفروا ليتفقهوا في الدين و يتعلّموا معارفه و أحكامه. كما يجب علي كلّ من تفقّه بعد التعليم أن ينذر و يرشد قومه الي سبيل اللّه كفاية.

الثالث: يجب علي كل من تعلّم الطبّ أو فنا من الفنون اللازمة للناس ان يلبي احتياجاتهم و يعطيهم ما يطلبون كفاية.

الرابع: يجب علي الناس الرجوع في كل أمر الي أهله؛ ففي أمور الدين عليهم الرجوع الي العلماء الرّبانيّين، و في الدنيا الي المتخصّصين، كما هو ظاهر.

الخامس: المؤمن لا يتنازع مع الآخرين، و لا يخرج بطرا فرحا فخورا مرائيا للناس و هو صابر علي النوائب.

السادس: المؤمن لا يتّبع غير المعلوم قولا و فعلا، فلا يغتاب، و لا يحكم بالنسب بالظن، و لا يعمل بشي ء لا عن علم.

السابع: المؤمن لا يصعّر خدّه للناس فلا ينظر إليهم نظرة احتقار بل يقصد

في مشيه و يغضض من صوته.

الثامن: المؤمن يحيي أخاه تحيّة لدي الملاقاة و لا أقل من السّلام، و لا بدّ من الجواب، و بالأحسن أفضل، فان السّلام تطوّع و الردّ فريضة، و يشمل ذلك كل ما يصدق عليه التحيّة و ردّها حسب المتعارف، و لكن أدب الاسلام السّلام «1».

التاسع: لا يجوز دخول دار الغير بغير اذنه قبل الاعلام و الاستيناس، و يجب الرجوع اذا قيل ارجعوا لأيّ غرض.

______________________________

(1)- قال تعالي: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلٰامٌ». (سورة الاحزاب [33] الآية 44)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 350

العاشر: لا بأس بدخول أمناء الحكومة الحقّة بيوتا بغير رضا أهلها بعد الاعلام عند وجود المصلحة مع رعاية تمام الحدود و الحقوق الشرعية، تحفّظا علي مصالح الامة.

الحادي عشر: علي المؤمنين التزيّن بكل ما يصدق عليه ذلك عند إرادة المساجد و المجامع و زيارة النبيّ و الامام (عليه و عليهم الصلاة و السلام) و ملاقاة العلماء الاعلام و الصلحاء العظام؛ بل عند إرادة الخروج من البيت مطلقا.

هاء- خصائص الشعب المؤمن:

الأول: المؤمنون اشدّاء علي الكفار و أعدائهم، رحماء بينهم، يرحم القويّ الضعيف و الغنيّ الفقير و هكذا.

الثاني: المؤمن مستقل صلب في ايمانه يروّج الحق و ينشره في معاشرته، و يوجب ايمانهم، فهو حيّ يولد المثل، و بنفسه بشير و نذير و يدعو لما يحيي الآخرين.

الثالث: الشعب المؤمن علي احساس من عظمة اللّه تعالي، و في تزايد الايمان، كلّ يوم أكمل من أمسه و لا يعتمد إلّا علي اللّه، فهم علي ربّهم يتوكلون.

الرابع: الشعب المؤمن في اعتقاده الراسخ باللّه و الرسول يجاهد في سبيل اللّه و طريق الحق مدي حياته، فيطلب بقاء الحق و يستخدم في سبيل ذلك ماله و نفسه و تمام طاقاته.

الخامس: الشعب المؤمن اخوة

يعيشون في بيت واحد و اسرة واحدة و يصلحون بينهم ان اختلفوا و يقاتلون الباغي منهم حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ تعالي فيحكمون بينهم بالقسط و العدل.

السادس: الشعب المؤمن 1) لا يبتغي متاع الغرور 2) فعلي اللّه تعالي يتوكّل 3) و من الاثم يجتنب و 4) علي الغضب يغفر و 5) دعوة اللّه يستجيب و 6) للصلاة يتمّ و 7) في الموضوعات أمرهم شوري بينهم فهم يتعاونون و 8) مما رزقوا ينفقون

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 351

و 9) اذا تسلّطوا غلي الباغي فلا يجزون السيئة إلّا سيئة مثلها.

السابع: الشعب المؤمن لا يبغي بعضهم علي بعض كما لا يبغي علي الغير فلا يظلم و لا يظلم و هم يعدلون.

الثامن: الشعب المؤمن لا يقول بالحق إلا يعمل به فهو عمليّ لا قولي.

التاسع: الشعب المؤمن لا يسخر بعضهم ببعض و لا يلمز عيوب الآخرين و لا ينابز بالألقاب.

العاشر: الشعب المؤمن لا يعمل بكل ما يسمع فلا يعتني بكل خبر حتي يتبين له الحق.

هذا تمام الكلام في الكتاب و فروعه، و الحمد للّه أوّلا و آخرا، و يتلوه كتاب الوصيّة ان شاء اللّه تعالي «1».

______________________________

(1)- و الساعة الآن العاشرة من ليلة التاسع من شهر ربيع الثاني سنة خمس و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة علي مهاجرها الف الف تحية 9/ 24/ 1395 ه. ق.- 1/ 2/ 1354 ه. ش.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 353

كتاب الوصيّة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 355

الوصيّة

تمهيد: لعلّك تسأل لما ذا جعلنا كتاب الوصيّة و الارث آخر الكتب خلاف ترتيب الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) في كتبهم الفقهية، و الجواب ظاهر فان الترتيب الطبيعي يقتضي ان يكون مثل القصاص و الحدود الراجع الي شئون حياة

المجتمع الاسلامي ضمن أحكامه الاجتماعية، و اما مثل الوصيّة و الارث الراجع الي الفرد في آخر حياته و بعده فيقع في نهاية الأبحاث الفقهية طبعا. و لنشرع في الأول بعون اللّه تعالي و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَي الْمُتَّقِينَ. (البقرة [2] الآية 180)

الآية- كما تري- تخبر بصيغة الماضي إنشاء بواجب، بل توجب خلال بيان واجبات اخر من القصاص و الصّيام، انّه اذا حضر أحدكم الموت فشعر بدنو أجله، و هو واجد خيرا من الأموال أو حقوقا محلّلة و مشروعة سيتركها في دار الغرور و يقضي نحبه، فعليه الوصيّة للوالدين و الأقربين بالمعروف المتناسب لشأن المؤمن الواجد، المحسن لوالديه، الموصل لرحمه و أقربائه، المراعي لحقوق اخوانه، و ذلك نوع حق علي المتقين. فمن لم يترك خيرا بأن لم يكن له شي ء من الأموال و الحقوق فليس عليه شي ء بنفي الموضوع. و من لم يكن له الوالدان و الأقربون و ترك خيرا فله بملاك الوالدين و الأقربين ان يوصي فيما ترك بالتعاون علي التقوي بتأسيس المدارس و المكتبات و المستشفيات و الإنفاق في سبيل اللّه، و بالجملة في اعلاء

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 356

كلمة الحق و ترويج شريعة سيد المرسلين (عليه و علي آله الطاهرين الصلاة و السلام).

و الكتابة تلك بعد كتابة القصاص و قبل كتابة الصّيام و حال بيان الحلال و الحرام، صريحة في الوجوب، إلا ان قوله تعالي: حَقًّا عَلَي الْمُتَّقِينَ يوجب ضعف ذلك. و اما الوجوب الناشئ من المتعلّق بأن كان عليه واجب إلهي من الصوم و الصلاة و الخمس و الزكاة أو شي ء من الديون و الحقوق فلا يرتبط

بوجوب نفس الوصيّة بما هي.

هذا و لكن الانصاف ان التأمّل في مقارنة آيات الوصيّة مع آيات الارث الصريحة في تعلّق تركة الانسان بالوالدين و الأقربين و أولي الأرحام بالموت- كما سيأتي ان شاء اللّه- يفيد انصراف الطائفة الأولي الي الاستحباب، توضيح ذلك ان آيات الارث بعد فراغها عن أصل التعلّق بالورثة بمجرد الموت ناظرة الي مسألة التفاوت، و ان للرجال نصيبا و للنساء نصيبا و ان لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فان الانسان اذا مات انقطع عمله و تصرفه و لا يعتبر لدي العقلاء ارتباط بين الميّت و شي ء حتي تنتزع عنه الملكية حتي فيما يتعلق بتجهيزاته، و استحقاقه له بحسب تكليف الذين مات بينهم و كان منهم بوجه.

و عندئذ تنتقل تركته بمجرد الموت الي ورثته الوالدين و الأقربين و أولي الأرحام قهرا، بمعني ان العقلاء يعتبرونه لهم بالموت كما كانوا يعتبرونه له بأسباب خاصة.

و الوصيّة: ايصاء الغير لعمل في وقته علي وجه يراه لازما فلا يتركه. و اذا تعلقت بالأموال للوالدين و الأقربين تكون بمعني ان يكون لهم كذا و كذا بعد موته فهي أيضا توجب الانتقال بعد الموت مع تفاوت و هو ان الارث ينقسم علي كتاب اللّه و سنّة نبيّه لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بحكم من اللّه تعالي في كيفية الانقسام و الانتقال بعد الانقطاع عن المالك الأول. و الوصيّة، تصرّف من المالك في أمواله حيث يشاء عقلائيا و ان كان ظرف العمل بعد وفاته وافق الكتاب بأن أوصي شيئا لهم علي كتاب

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 357

اللّه لينقسم علي التفاوت، أو خالف بأن أوصي أن يكون لهم علي السويّة- مثلا-.

و من هنا ظهر توهّم النسخ بآيات الارث و هو ضعيف غاية الضعف،

و نحن بحمد اللّه تعالي و في ظل ارشادات العترة الطاهرة (عليهم السّلام) عدل الكتاب و السنن الواصلة عنهم في فسحة من التكلفات، لبيانها حقيقة الأمر و تعيينها مواردها جمعا بين الآيات و حفظا للحقوق بأن الوصيّة نافذة في ثلث التركة، و فيما زاد منوط باذن الورثة. فان حق الوصيّ للموصي له تعلّق بما هو متعلق لحق الورثة طبعا «1».

و لعل ذيل الآية يرشد الي ذلك اجمالا- كما سيأتي من جواز تبديل الوصيّة و التصرف فيها اذا خيف من الموصي الميل عن الحق و الجنف أو الاثم بالوصيّة بالحرام أو تحريم حق.

و الحاصل ان وجود بحث الارث و آياته و مقارنته مع الوصيّة يوجب تضعيف ظهور الكتابة في آية الوصيّة حتي مع السياق في الوجوب، فهي نوع حق علي المتقين، لهم ان يستفيضوا منه في ثلث أموالهم، و للورثة المال، من بعد وصيّة يوصي بها أو دين، و الأمر بيدهم في الزائد عليه، ان شاءوا أجازوا و إلّا ردّوا معا أو بالتفريق كلّ في سهمه.

الثانية- قوله تعالي:

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مٰا سَمِعَهُ فَإِنَّمٰا إِثْمُهُ عَلَي الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* فَمَنْ خٰافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (البقرة [2] الآية 181- 182)

الآيتان كما تري تفيدان أوّلا حرمة التصرّف في الوصيّة تقليلا أو تكثيرا أو تبديلا عن موضعها أو موعدها زمانا و مكانا مع التأكيد في الحرمة بعنوان الفراغ عن أصل الاثم و الذنب، ان الذنب علي عاتق من؟ و المذنب من هو؟ فتقول انما اثمه

______________________________

(1)- و لعلّه الي ذلك أشار قوله تعالي: «غَيْرَ مُضَارٍّ» بعد قوله: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا أَوْ دَيْنٍ» في (سورة النساء

[4] الآية 12) كما سيأتي ان شاء اللّه في بحث الارث.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 358

علي الذين يبدلونه، و اللّه تعالي سميع لما تقولون في المقامات، و عليم بالأغراض و النيّات، نعم اذا خيف من موص جنفا و ميلا الي الباطل بأعماله غرضا غير مشروع أو إثما من وصيّة في محرم أو تحريم حق، فلا اثم في تبديلها و جعلها في موضعها.

و الاثم قرينة علي ان المراد من خوف الجنف ما اذا علم به، و التعبير للأدب و ليكون ذلك التبديل من الباطل الي الحق بإصلاح بين الورثة أو بينهم و بين الموصي له و تراضيهم علي الحق. لا يقال ان تقييد نفي الاثم بالاصلاح قرينة علي بقاء الخوف علي ظهوره، و الاصلاح تحفّظ علي الواقع، و لعلّ الموصي لم يكن به جنف، فانه يقال: نعم ذلك تام لو لم يكن في البين اثم، و الاصلاح قيد لنفي الاثم في الاثم و الجنف و التبديل واجب في الاثم قطعا، فان الوصيّة لا تحلل حراما.

و لا يبعد ان يقال بعد حفظ ظهور الكلمات و ان المعني- و اللّه تعالي أعلم- ان لا اشكال في تبديل الوصيّة و التصرّف فيها اذا ظن و احتمل الاثم أو الجنف مع الاصلاح بمعني المصالحة بين الورثة فيما كانت بينهم علي غير وجه الارث أو بينهم و بين الموصي له، فانه بالمصالحة تحفظ الحقوق، حيث لا يعلم و لا يقطع بالجنف أو الاثم، و اما مع العلم بهما فلا بد من التصرّف و التبديل، و لا يتوهّم في المقام الاثم و الحرمة حتي يدفع به، فان الوصيّة لا تحلل حراما و لا تبطل حقا، بل للمبدّل أجر و ثواب، فانه لكل

من يحق الحق و يبطل الباطل علي اختلاف المستويات.

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلٰاةِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لٰا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبيٰ وَ لٰا نَكْتُمُ شَهٰادَةَ اللّٰهِ إِنّٰا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ. (المائدة [5] الآية 106)

الآية- كما تري- تفيد لزوم الاشهاد- علي الوصيّة حينما يوصي أو علي كتابتها- اثنين ذوي عدل منكم ان كان حضور الموت في الحضر، و من غيركم اذا كان

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 359

في السفر، و ذلك تحكيما للأمر و رعاية للحقوق عند اجراء الوصيّة. و حينئذ ان لم يكن ارتياب فيها و في الشهادة عليها فهو، و إلّا فبالشهادة تستحكم الوصية، و اما ان ارتبتم في نفس الشهادة لكونها من أقرباء الموصي، فعليهما القسم علي تفصيل ذكرناه في كتاب الشهادة فراجع، و ضمير الجمع راجع الي أقرباء الموصي و أفراد عشيرته و قومه لا اخوانه في الدين ليكون المراد من غيركم غير المسلم سيّما في السفر مع دلالة كيفية القسم علي ذلك.

و لكن الحق الوثوق و الاعتماد بالملاك كما فصّلناه في كتاب الشهادة، فلا بأس باشهاد غير المسلم في السفر لدي الضرورة كما تعلم مع الوثوق. و بالجملة: لا بدّ مما يصحّ الاستناد إليه حال الاختلاف و الاثبات شرعا و عقلائيا.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوٰاجِهِمْ مَتٰاعاً إِلَي الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرٰاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِي مٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. (البقرة [2] الآية 240)

حاصل مفاد الآية

استحباب وصيّة الزوج- اذا حضره الموت- لزوجته متاعا لها بعدم اخراجها عن بيتها التي كانت تعيش فيه مع زوجها الي سنة، و كذلك نفقتها، فليس للورثة اخراجها- سواء قلنا بإرثها عن الاعيان أو لا، كما سيأتي ان شاء اللّه في كتاب الارث- إلا ان تخرج بنفسها عنه و تفعل بالمعروف من التزوّج بعد انقضاء عدّتها، فلا جناح عليهم في ترك الانفاق و السماح لها بالخروج حتي تذهب مع زوجها الجديد و تعيش معه، و ينفق عليها ما تفتقر إليه من المسكن و الملبس و ما بينهما.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 360

تذييل في نتيجة الأبحاث

الأول: الوصيّة مستحبة لكل من شعر بدنو أجله و ان الموت قد أدركه و كان له خير من مال أو حق للوالدين و الأقربين بل مطلق الورثة بل في مطلق الخير و سبيل اللّه تعالي.

الثاني: الوصيّة نافذة في ثلث التركة، و في الزائد معلق علي اذن الورثة ردّا أو امضاء معا أو بالتفريق جمعا بين الحقوق و ذلك مستفاد من السّنة.

الثالث: لا يجوز التصرّف في الوصيّة و تبديلها بوجه.

الرابع: يجوز تبديل الوصيّة عند احتمال الاثم أو الجنف مع المصالحة بين الورثة أو بينهم و بين الموصي له.

الخامس: لا بدّ من التصرّف في الوصيّة و تبديلها عند العلم بالاثم أو الجنف بجعل الحق في موضعه و ابطال الباطل.

السادس: ينبغي الاشهاد علي الوصيّة بالعدلين تحفّظا علي الحق.

السابع: لا بأس باشهاد غير المسلم الموثوق به في السفر لدي الضرورة بل تحكيم الأمر بكل ما يمكن ان يستند إليه لدي الاختلاف من السجلات.

الثامن: يستحب الوصيّة للزوجة بعدم اخراجها عن البيت الي الحول و الانفاق عليها، إلّا ان تتزوّج بعد عدّتها فلا بأس بإخراجها و ترك انفاقها.

هذا تمام الكلام

في الوصيّة و فروعها، و يتلوها كتاب الارث ان شاء اللّه تعالي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 361

كتاب الارث

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 363

الارث

مقدمة: من المعلوم لدي العقلاء وجود علاقة بين الانسان و ما يختصّه بنفسه بالاصطياد أو الاحتطاب أو احياء الاراضي الموات من المملكات الأوليّة أو بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة من المملكات الثانوية، فهم يعتقدون ان ذلك له أو هو أحقّ بالاستمتاع منه في الجملة، و لا يجوز لغيره التصرّف فيه بغير اذنه و رضاه، و قد فصّلنا ذلك في مقدمة كتاب التجارة.

ثم ان ذلك الاعتبار العقلائي المسمّي بالملكيّة- كما تعلم- قائم بالطرفين المالك و المملوك، فاذا انعدم المملوك انعدمت الملكيّة، و لا مالك بلا مملوك، و أمّا اذا مات المالك ماتت مالكيّته أيضا معه، و حيث تكون السلعة القابلة للانتفاع المرغوبة فيها باقية، لا يضيعها العقلاء بل يجعلونها في اختيار من هو أقرب بمن حصّله و تملّكه أولا، و كذلك حقوقه التي كانت له من قبل، يعتبرونها له بالنسب أو بحق كان له عليه من الولاية الخاصّة بعتق أو ضمان … أو العامة من الامامة حيث لم يكن آخر.

و تقدم تلك الروابط بعضها علي بعض كتقدم أولي الأرحام بعضهم علي بعض، طبيعي عقلائي في الجملة، أرشد إليه الشرع بالتفصيل. و آيات الباب علي قسمين: العامّة و الخاصة؛ فمن الأولي آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لِكُلٍّ جَعَلْنٰا مَوٰالِيَ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمٰانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً. (النساء [4] الآية 33)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 364

الموالي المجعولة لكل أحد جمع المولي، و هو في أحد معنييه (المناسب للمقام) من له الولاية و حق التصرّف، و المتعلق ما

تركه الوالدان و الأقربون مما قلّ أو كثر، فقد جعل اللّه تعالي لكل أحد موالي و ذوي حق بالتصرّف في ما ترك، و هو والدهم أو قريبهم و هم ولده أو أقرباؤه، فهم ورثته بجعل من اللّه تعالي علي ملاك النسب «1»، و كذلك الذين عقدت ايمانكم، و جعلت اليمين و العهد و القرار لهم ربطا و علاقة يرثونكم ان كان معطوفا علي الموالي أو ترثون منهم ان كان معطوفا علي الوالدين و الأقربين، فتفيد الجملة- كيف كان- ثبوت التوارث بملاك آخر غير النسب من العقد و العهد الذي نعبّر عنه بالولاية التي تتحقق بينهما من العتق أو الضمان لجريرة أو غيرها الي الولاية العامة و الامامة الحاصلة كلّها بنوع من العقد و اليمين، فمحصّل مفاد الآية ثبوت التوارث بالنسب و بالولاية في الجملة من غير تفصيل كما هو ظاهر.

الثانية- قوله تعالي:

لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمّٰا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. (النساء [4] الآية 7)

الآية- كما تري- تصرّح بثبوت سهم للرجال و سهم للنساء من تركة الوالدين و الأقربين، و كأنّها تعتمد علي التفاوت في سهامهم من طرف الوارث و ان نصيب الرجال غير نصيب النساء و سهمهنّ، و إلا لم يكن وجه للتكرر، و تفيد زائدا ان ذلك السهم و النصيب مفروض مضبوط- سواء كانت التركة قليلة أو كثيرة- و لعلّ الذيل أيضا يشير الي التفاوت في فروضهم و سهامهم؛ و محصل المفاد أمران: القرابة و النسب من أسباب الارث في الجملة. و الارث مقسم مفروض كذلك.

______________________________

(1)- و يؤيّد ذلك اطلاق زكريا (عليه السّلام) الوليّ علي ولد يرثه و يرث من آل

يعقوب كما حكاه اللّه تعالي عنه في قوله: «وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوٰالِيَ مِنْ وَرٰائِي وَ كٰانَتِ امْرَأَتِي عٰاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» (مريم [19] الآية 5 و 6) و سيأتي الكلام فيه ان شاء اللّه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 365

الثالثة- قوله تعالي:

… وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْليٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ. (الانفال [8] الآية 75)

الآية في مقام بيان اثبات الولاية بين المؤمنين حقا، و نفيها بينهم و بين الكفّار، تشير الي قاعدة اخري خلال الكلام و هي ان أولي الأرحام و الأقرباء بينهم التفاوت و الاختلاف بحسب القرب و البعد، فبعضهم أولي من بعض في مختلف الشئون و المستويات، و يشمل ذلك الارث و هو مسطور في كتاب اللّه.

فتفيد الآية ان القرابة و الرحم من أسباب الارث، فانّه كما انّ بينهم الأولوية و يمنع الأقرب منهم الأبعد، كذلك هم أولي من غيرهم بالأولوية يمنعون غيرهم من غير الرحم- ذوي الولاية كانوا أو من غيرهم- و الأقرب أولي من الأبعد.

الرابعة- قوله تعالي:

النَّبِيُّ أَوْليٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْليٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهٰاجِرِينَ إِلّٰا أَنْ تَفْعَلُوا إِليٰ أَوْلِيٰائِكُمْ مَعْرُوفاً كٰانَ ذٰلِكَ فِي الْكِتٰابِ مَسْطُوراً. (الاحزاب [33] الآية 6)

الآية أيضا عند بيان ولاية النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) علي المؤمنين و انه أولي بهم من أنفسهم، تشير الي أولويّة أولي الأرحام بعضهم علي بعض من المؤمنين و المهاجرين من غير اختصاص بقوم أو صنف، فتفيد أيضا سببيّة القرابة و ترتّب المراتب فيها، فيمنع الأقرب الأبعد في الارث أيضا كما عرفت، إلّا ان تفعلوا

الي أوليائكم من الأقرباء و الأرحام أو غيرهم معروفا بإيصاء اعطاء شي ء لهم، فعندئذ يقدم ذلك الفعل المعروف الأولويّة الرّحميّة أي التوارث بالقرابة، و يعود ذلك عندنا الي قوله تعالي: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا أَوْ دَيْنٍ كما سيأتي ان شاء اللّه في آيات من تأخّر الارث عن الوصيّة، و اختصاص المعروف في المقام بالوصيّة بمناسبة الحكم و الموضوع، و يؤيّده تمام الآية من انه كان ذلك في الكتاب مسطورا، عادت الاشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 366

الي أصل القرابة و الأولوية فيها أو الي تقدم المعروف الوصيّة علي الارث أو إليهما.

تتميم: لا بدّ من التنبّه الي مسير تلك المراتب التي أفادت الأولوية فيها و تقدّم بعضها علي بعض، و الانسان له ارتباط طبيعي بمن ولد عنه- من أب و أم- و بمن ولد له من ابن أو بنت، و هذا أول ارتباط رحمي يقدم علي كل ارتباط. فالأبوان في رتبة الأولاد من أول المراتب.

ثم هذا الانسان بعد ذلك مرتبط بمن ولد عن والده أو ولد والده عنه أبا و أمّا أو هما معا من الاخوة و الاخوات، و كذلك الأجداد و الجدّات أي والدي والديه فصاعدا فهم في مرتبتهم ثاني المراتب، ثم ارتباط الانسان بمن كان مع والديه من والد واحد من الاعمام و العمّات و الأخوال و الخالات فانهم في ثالث المراتب.

و ترتب المراتب في كل مرتبة (بمعني ان الأقرب يمنع الأبعد) ظاهر.

و لقائل ان يقول: الانسان المفروض المرتبط بلحاظ نظام التوالد من الجهة عالية بالأبوين و من الدانية بالأولاد، أجداده في رتبة آبائه مرتبطون به مؤثرون في تولده برتبة و اما الاخوة الواقعون في رتبة تولده من أبويه المرتبطون باجداده كارتباطه، كيف يكونون

في مرتبتهم و هم في عرضه؟ نعم الاخوان و الخالات إخوة الأم و الأعمام و العمّات إخوة الأب في رتبة واحدة متأخرون عنه مرتبطون به علي السّواء.

و لكن بعد التأمّل نجد ان تأخّر الاجداد بمرتبة في تولد ذلك الانسان و تأخر الاخوة أيضا بمرتبة بالنسبة الي الآباء و الأولاد من جهة نظام التوالد واحد و ان كان الأجداد دخيلين في تولده دون الاخوة و لا دخل لذلك في جميع المراتب، كما تري ذلك في ارتباط الاعمام و الأخوال اخوة الأمّ و الأب المنفصلين عن تأثير التوليد في مرتبة الجدّ و الجدّة كإخوته المنفصلين عن التأثّر في تولّده في مرتبة الأب و الأمّ.

و الأساس حفظ المراتب علي أصل التوالد مع التأثير في تولده أو توليده كما في المرتبة الأولي أو المقارنة و الارتباط بتلك السلسلة التي كان لها ذلك التأثير و ان لم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 367

يكن مؤثرا في تولده بخصوصه في أي مرحلة كالأخوة و الأعمام، و هكذا صاعدا و نازلا. و المحصل ان المراتب الثلاث في كل منها طبيعيّة علي أساس ثابت لا تعبديّة، و قد فصّلها الشرع كما في المفصّلات.

و أما الآيات الخاصّة:

فالأولي- قوله تعالي:

يُوصِيكُمُ اللّٰهُ فِي أَوْلٰادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسٰاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثٰا مٰا تَرَكَ وَ إِنْ كٰانَتْ وٰاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّٰا تَرَكَ إِنْ كٰانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَوٰاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كٰانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا أَوْ دَيْنٍ آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ لٰا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً. (النساء [4] الآية

11)

تحكم الآية- كما تري- بقاعدة أساسية في مسألة الأولوية الرحميّة أولا بحيث يكون ساريا في جميع مراتب الأقرباء الوارثين و هو أنّ حظّ الذكر يساوي حظّ الانثيين، و له مثل ما لهما، فاذا لم يكن للمورّث إلّا ذكر و انثيان فالمخرج من أربع للذكر نصف المجموع ربعان و لكل منهما ربع واحد، و اذا كانوا ذكرين و انثي فالمخرج من خمسة خمس للأنثي و لكل منهما خمسان و هكذا في جميع المراتب.

ثم بعد ذلك الأصل تبيّن الفرائض المقدّرة من اللّه تعالي، و هي في الآية أربع؛ الأولي: ثلثان اذا كان الورثة اثنين «1» فما فوقهما، الثانية: النصف اذا كانت بنتا واحدة، الثالثة: السدس لكل واحد من الأبوين اذا كانا مع ولد للمورث ذكرا أو انثي أو معا، واحدا أو متعددا، الرابعة: الثلث للأمّ اذا لم يكن له ولد و لا وارث آخر في مراتب تالية من الاخوة و ورثه أبواه فقط، و إلّا فان كان له اخوة فلأمّه السّدس.

كل ذلك بعد الوصيّة و الدين فانهما أقدم، سواء كان من آبائكم أو ابنائكم،

______________________________

(1)- ايرادهما في حكم ما فوقهما لقيد الوحدة فيما بعده في الآية كما تري.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 368

و اعلموا ان اداء الدين و العمل بالوصيّة (في الثلث كما عرفت) أنفع بحالكم و أنتم لا تدرون ان ذلك أقرب إليكم نفعا «1» من تركهما و تقسيم التركة، و ذلك فريضة من اللّه تعالي، و قد كان عليما بمصالحكم في جعل تلك الحدود حكيما في تحديدها.

و محصّل الآية أمور:

الأول: ان للذكر مثل حظ الانثيين.

الثاني: ذكر فرائض أربعة:

الأولي: ثلثان لبنتين فصاعدا فلهنّ مجموع التركة ان لم يكن معهنّ وارث آخر في مرتبتهنّ. الثلثان بالفرض و الباقي

بالردّ يقتسمنه علي السّواء. و ان كنّ مع الأبوين أو أحدهما فالمخرج السّدس لكل واحد منها السّدس ثلث المجموع ان كانا معا و الباقي أسداس ثلثان لهنّ يقتسمنّه علي السواء، أو خمسة أسداس ان كنّ مع احدهما أربعة بالفرض لهنّ و واحدة بالردّ إليهنّ و الي الأب اخماسا «2».

الثانية: النصف للبنت الواحدة لها المجموع ان لم يكن معها آخر في رتبتها، النصف بالفرض و الباقي بالردّ و ان كانت مع الأبوين أو أحدهما فالمخرج من اثني عشر الحاصل من ضرب مخرج سهمهما، في مخرج سهمها و لكل مهما اثنان سدس المجموع و لها السّتة نصف المجموع بالفرض و الباقي الاثنان ان كانت معهما أو أربع ان كانت مع احدهما لهما بالردّ «3».

الثالثة: الثلث و هو فرض الأمّ ان لم تكن مع ولد و حيث لا فرض للأب حينئذ فالمخرج من ثلث مع عدم الحاجب من الاخوة، أو الستة معه منهم، و لها الثلث أو

______________________________

(1)- فان كثيرا ما ينتهي نفع ذلك الي المجتمع و يعود إليكم مع تحكيم الروابط و تلطيف اجواء المعيشة، و بالتقسيم انتفعتم ببعضكم قليلا كما هو ظاهر.

(2)- فيصير المخرج في الصورة ثلثين الحاصل من ضرب الخمسة مخرج ذلك في الستة مخرج السّهام للأب عشرة و لهما فما فوقهما عشرين.

(3)- أي للبنت و الأبوين اذا لم يكن للأمّ حاجب عن الزيادة من الاخوة أو لها و لأحد الأبوين أخماسا ان كانت معهما و المخرج من ثلثين و أرباعا ان كانت مع احدهما و المخرج من أربع و عشرين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 369

السّدس و الباقي للأب فان من عليه الغرم فله الغنم.

الرابعة: السّدس نصف الثلث لكل واحد من الأبوين اذا كان له ولد

فان كانا مع ذكر واحد المخرج من السّدس لكل منهما واحد و الباقي له بالرّد و مع بنت واحدة المخرج من اثني عشر كما ذكرنا في النصف، و مع ابن و بنت المخرج من ثمانية عشر الحاصل من ضرب مخرج السّدس في مخرج سهما مهما ثلاثة، لكل واحد منها ثلاثة أسدس المجموع و للذّكر ثمانية و للأنثي أربعة و هكذا في تعدد الأولاد ذكورا أو اناثا أو مختلفا.

الثالث: تفيد الآية ان الأبوين يشتركان مع الأولاد في رتبة واحدة و اما مع الاخوة فيتقدّمان بالأولوية إلا انهم يحجبون الأمّ عن الثلث الي السدس فينتقل الباقي الي الأب و من معه، فلأمّ فرضان الثلث مع عدم الولد و عدم الحاجب، و السّدس معه.

الرابع: تفيد الآية ان تلك السهام و الفرائض و بالجملة قسمة التركة لا تكون إلا بعد الوصيّة أو الدين و هما مقدمان علي الارث بلا اشكال.

الثانية- قوله تعالي:

وَ لَكُمْ نِصْفُ مٰا تَرَكَ أَزْوٰاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كٰانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّٰا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّٰا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كٰانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّٰا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كٰانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلٰالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كٰانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكٰاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصيٰ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ. (النساء [4] الآية 13)

تبيّن الآية أيضا فرائض و ذويها:

الأولي: ان للزوج نصف تركة الزوجة اذا لم يكن لها ولد منه أو من غيره، و ربعه

اذا كان لها ولد كذلك، و ذلك بعد الوصيّة و الدين و هما من أصله.

الثانية: ان للزوجة ربع تركة الزوج ان لم يكن له ولد منها أو من غيرها، و الثمن

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 370

ان كان له ولد كذلك من غير فصل في ذلك حسب اطلاق الآية بين العقار و غيرها، فهي كغيرها من الورثة بالنسبة الي التركة سواء كانت ذات ولد منه أو لم تكن. إلا ان الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) أفتوا في غير ذات الولد منها بمنعها عن الأرض مطلقا و عن رقبات البناء و الآلات و الأشجار دون قيمتها مستندين الي روايات صحاح معلّلين بانها تدخل علي الورثة من يكرهونه بالتزوّج، مع انك تري ان العلّة تعمّ ذات الولد أيضا و لا نفي بمنعها عن قيمة الأرض، و للتحقيق في المسألة محل آخر فترقّبه ان شاء اللّه.

ثم ان ذلك الفرض لها، و لكم بعد الوصيّة و الدين من أصل التركة و ثلثها كما عرفت.

الثالثة: فرائض الكلالة للرّجل أو المرأة أخ أو أخت أي الاخوة من غير اختصاص بالامّي أو الابي أو الأبويني «1» و لا ينافي ذلك مقتضي الجمع الاختصاص بالامّي كما سيأتي ان شاء اللّه، فتفيد الآية ان الأخ أو الأخت ان كان واحدا فله السّدس يرث من أخيه أو اخته و ان كانوا أكثر فلهم الثلث بالشركة و السّوية ذكورا كانوا أو اناثا أو مختلفين؛ و ذلك بعد الوصية و الدين.. وصيّة غير مضارّ لحق الورثة أي غير متجاوز عن الثلث، و تكرار ذلك يفيد قطعيّة تأخر الارث عن الوصيّة و الدين، و القيد يشير الي تحديد الثلث، و في الزائد علي اختيار الورثة «2».

و يستفاد من الآية أيضا

ان الزوجين يجتمعان مع الاخوة الواقعين في المرتبة

______________________________

(1)- عن المفردات ان الكلالة اسم لما عدا الولد و الوالد من الورثة. و انّه سئل من النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فقال من مات و ليس له ولد و لا والد فجعله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) اسما للميّت، و كلا القولين صحيح فان الكلالة مصدر يجمع الوارث و المورث الي آخر ما قال و أشار الي نكتة في قوله و انما خصّ الكلالة ليزهد الانسان في جمع المال فان تركه لهم أشدّ من تركه للأولاد و ذلك مثل قولك ما تجمعه فهو للعدوّ.

(2)- و اما تقدّم الوصية علي الدين أو الدين عليها فلا يستفاد من ظاهر الآية و ليست في مقام بيان ذلك، و طبع ماهيّتهما يقتضي تقدّم الدين فان الوصيّة في التركة و المدينون كأن تركته للدائن و لو بتعلّق الحق و انتقال الدين الي العين بالموت. و السنة أوضحت الأمر بحمد اللّه فلا تحتاج الي تكلّفات مثل تفسير «أو» بمعني «إلّا» أو «الي» كما لا يخفي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 371

الثانية فاجتماعهما مع المرتبة الأولي الآباء و الأولاد أولي، و ان كانا بحيث لم يختصّ بهما مرتبة فيجتمعان مع أي مرتبة حتي الأعمام و الأخوال و أولادهم من أولي الأرحام الذين لم يذكر منهم في كتاب اللّه تعالي بخصوصهم اسم أو فريضة و هم في ثالث المراتب.

الثالثة- قوله تعالي:

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّٰهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلٰالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُهٰا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهٰا وَلَدٌ فَإِنْ كٰانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثٰانِ مِمّٰا تَرَكَ وَ إِنْ كٰانُوا إِخْوَةً رِجٰالًا وَ نِسٰاءً

فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّٰهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ. (النساء [4] الآية 176)

تفتي الآية بعد الاستفتاء عن الكلالة أي ورثة امرئ هلك ليس له ولد و لا من في رتبته من الأب و الأم كما اقتصته الآية الأولي بانها ان كانت اختا واحدة فلها نصف ما ترك أخوها أو اختها فان المرء هنا يعمّ المرأة كما انّه يشمل الأخت الواحدة كذلك ان لم يكن لها ولد و من في رتبته.

و اما ان كانت الكلالة اختين فصاعدا فلهما الثلثان مما ترك، و ان كانوا اخوة رجالا و نساء ف لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، و تلك حدود اللّه و يبيّن اللّه لكم كي لا تضلوا عن الحق، و اللّه تعالي بكل شي ء عليم، فكيف بقسمة الأرزاق و الأموال بينكم حسب التشريع و التكوين نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ «1».

ثم انك تري تضاربا بدويا بين الآيتين في حكم الكلالة، فان الآية الأولي تحكم فيها بالسّدس و الثانية بالنصف ان كانت واحدة، و كذلك في الأكثر تحكم الأولي بالثلث مشتركا بينهم مطلقا، و الثانية بالثلثين في الاختين، و اما ان كانوا اخوة رجالا و نساء ف لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

______________________________

(1)- و قد مرّ بحث الرزق في القرآن الكريم في ذيل كتاب الأطعمة و الأشربة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 372

و لكنك بعد التأمّل فيها و التنبّه الي ان سهم من يتقرّب الي المورث بواسطة يؤثّر فيه وضع تلك الرابطة و الواسطة، تجد دلالة الآية الأولي بنفسها علي اختصاصها بالكلالة الأميّة للحكم فيها بالثلث في المتعدد منهم مطلقا رجالا كانوا أو نساء أو مختلفين. و في الآية الثانية تحكم علي القاعدة لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عند التفاوت،

و ذلك لا يكون إلا لوساطة الأم كما تري في أولاد الأولاد من التسوية بين من يرتبط بالبنت مع اختلافهم ذكورا أو اناثا، و الاختلاف بين من يرتبط بالابن عند الاختلاف.

و عليه ترجع الآية الثانية الحاكمة علي القاعدة من التفاوت عند التفاوت الي الاخوة غير الاميّين الأبيّين و لا تهافت في النصف و السّدس أيضا لتعدد الموضوع، فان الثاني في الآية الأولي للكلالة الواحدة الأميّة و الأولي في الثانية لها في غير الأمي. ثم تقدّم الابويني علي الابي ظاهر بحكم الأولوية الرحميّة، مع ان السنّة بحمد اللّه فصّلت الأمر و بينته و لم يبق ريب.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ إِذٰا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبيٰ وَ الْيَتٰاميٰ وَ الْمَسٰاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً* وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعٰافاً خٰافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّٰهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً. (النساء [4] الآية 8- 9)

تأمر الآية بارزاق شي ء من التركة و اعطائه لأولي القربي و اليتامي و المساكين ان كانوا حاضرين قسمتها لأولي الأرحام الورثة. و ظاهر الأمر الوجوب، و الوجوب علي المالكين بالفعل، و لكن السياق يرشد الي الاستحباب لقوله تعالي: وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعٰافاً خٰافُوا عَلَيْهِمْ من اللّه تعالي و ليعلموا انّه تعالي هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ و هو الذي يعطي من يشاء و يمنع عمّن يشاء، فليست العزّة و الثروة بما يرثونه من الأقرباء، فلا يخافوا علي فقر ذريّتهم فيتركوا الانفاق علي الفقراء الحاضرين، فليقولوا لهم قولا سديدا مع اعطاء شي ء أو ردّهم بلين اللسان

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 373

و شي ء من الاعتذار. و الحاصل استحباب الانفاق علي الفقراء الحاضرين للقسمة و لا سيما اذا كانوا

من أولي القربي كاستحباب الانفاق من الزرع يوم الحصاد علي من حضر يومه كما عرفته في كتاب الزكاة.

تتميم: محصل مجموع الآيات الخاصّة أمور:

الأول: ان الفرائض ستة و لكلّ منها أهل:

الأولي: النصف للبنت الواحدة، و للزوج اذا لم يكن لزوجته ولد، و للكلالة غير الامّي أخ أو أخت واحدة، أبويني أو أبوي عند عدمه.

الثانية: الثلثان لبنتين فصاعدا، و اختين فصاعدا أبوينيتين أو أبويتين عند عدمه، الكلالة المتعددة.

الثالثة: الثلث للأمّ اذا لم يكن للميت ولد و لا حاجب من الاخوة و لكلالة الأمي و أخوته اذا كانوا أكثر من واحد، و هم فيه شركاء علي السواء مطلقا.

الرابعة: الربع للزوج اذا كان لزوجتها ولد. و للزّوجة اذا لم يكن لزوجها ولد.

الخامسة: السدس لكل واحد من الأبوين ان كان له ولد، و للأم ان لم يكن له ولد و حجب عنها الحاجب من الاخوة، و لكلالة الواحدة الاميّة الاخت أو الأخ.

السادسة: الثمن للزوجة اذا كان لزوجها ولد أو من غيرها.

الأمر الثاني: ان الأبوين يرثان في رتبة الأولاد أول المراتب.

الثالث: ان الاخوة و الكلالة يرثون حينما لم يكن للميت ولد و لا والد، فهم في ثاني المراتب، و باقي الأقرباء أولو الأرحام من الأعمام و الأخوال و أولادهم يرثون في ثالث المراتب.

الرابع: ان الزوجين يرثان مع كل وارث في أي مرتبة.

الخامس: ان الارث بعد الوصيّة غير المضارّة و بعد الدّين، فلا إرث فيما استوفي الدين التركة و لا في ثلثها اذا استوفتها الوصيّة.

السادس: يستحب انفاق شي ء من التركة علي الأقرباء و اليتامي و المساكين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 374

الحاضرين قسمتها علي أولي الأرحام الورثة كاستحباب الانفاق من الزرع علي من حضر الحصاد يومه.

خاتمة في العول و التعصيب

اعلم ان هنا بحثا ينبثق عن العناية

الي الفروض الستّة و أهاليها الثلاثة عشر اختلف فيه المسلمون، فأصحابنا في ضوء العترة (عليهم السّلام) علي جانب اليمين و الآخرون علي الآخر، و هو ان الفروض و السهام قد يتوافقان فلا كلام، كما في الأبوين و ابنتين مثلا فان لكل واحد منهما السدس جمعهما ثلث المجموع و لهما الثلثان أو في زوج و أخت أبوينية أو أبوية فان فرض كل منها نصف.

و أما مع عدم التوافق بأن زادت الفريضة علي السهام كما في بنت و أبوين فلكل واحد منهما السدس و لها النصف ثلاثة أسداس، يبقي سدس آخر أو نقصت عنها كما في بنتين و أبوين مع الزوج أو الزوجة فان فريضتهما الثلثان و لكل واحد منهما السدس فينقص سهم الزوج الرّبع أو الزوجة الثمن.

وقع الكلام و البحث في كيفية التوافق و التطبيق ان الزيادة ترد علي العصبة ساير الأقرباء أو علي ذوي الفروض أنفسهم، و يطلق علي ذلك التعصيب، و ذهب إليه الجمهور، و منعه أصحابنا بردّهم الزائد الي الوارث المقدّم صاحب الفرض، و كذا في النقيصة، و انه يقع علي الجميع كما عنهم أو علي من له فرض واحد لا ينقص الي فرض آخر كالبنت و البنات و الأخوات دون الزوج و الزوجة و الأم الذين لهم فرضان في كتاب اللّه لا ينقص إلّا الي فرض فيعطي أوّلا كما عن أصحابنا.

و الانصاف ان الآيات خالية عن بيان ذلك و لا يتمّ ما توهّم من اشعار قوله تعالي حكاية عن زكريا: وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوٰالِيَ مِنْ وَرٰائِي وَ كٰانَتِ امْرَأَتِي عٰاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ علي الرّد الي العصبة كما أشار إليه صاحب الكنز (رحمه اللّه)

و أجاب عنه في مسألة التعصيب بل الأولوية الرّحمية تقتضي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 375

الرد الي ذوي الفروض.

و لكن لا يبعد استيناس مسألة العول علي ضوء ارشادات الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) عن الآيات، فان تقسيمها ذوي الفروض و جعل فرض لقسم و فرضين لقسم آخر لا يكون جزافا، فمن لا يتغير فرضه إلّا الي فرض آخر مثل الزوج و الزوجة و الأم لا يرد عليه النقص بلا فرض و لا بدّ من اداء فرضه إليه أوّلا فيقع النقص طبعا علي مثل البنت و البنات، و أيم اللّه لو قدّموا من قدّمه اللّه ما عال الفريضة «1» من قبل من قال ما أدري أيّكم قدّم اللّه و أيّكم أخّر و ما أجد شيئا أوسع من ان اقسّم هذا المال بالحصص، عند ما عرض عليه كثرة عائلة الفروض و قلّة المال، و لم يدر علي من يردّ النقص، و لم يكن إلّا ابن الخطّاب.

و نحن بحمد اللّه حيث قدّمنا من قدّمه اللّه تعالي من العترة الطاهرة (عليهم الصلاة و السلام) عدل الكتاب، و اتبعناهم في الأصول و الفروع علي نصّ الكتاب و السّنة، ما ابتلينا بالعول فأوردنا النقص علي من أخّره اللّه و كذلك ما ابتلينا بالعصبة كما ابتلوا.

تذييل في نتيجة الأبحاث

الأول: اسباب الارث أمور: النسب، و الزواج و الولاء.

الثاني: الارث مقسّم علي ضوابط و مفروض علي القواعد.

الثالث: الأقرباء فيهم المراتب يمنع الأقرب الأبعد.

الرابع: المراتب الاصليّة في الرّحم ثلاثة: الآباء و الأولاد، الأجداد و الأخوة، الأعمام و الأخوال و أولادهم.

______________________________

(1)- و في كلام ابن عباس كما تري اشعار الي مسألة أهم من المبحوث عنه أي الولاية و الزعامة العامة و ان من قدّمه اللّه تعالي في أمر الولاية هو

عليّ (عليه السّلام) و لو قدّموه و أعطوا حقّه باطاعته و الاستفتاء عنه (عليه السّلام) لم يتفق امثال تلك الخطايا في الحدود و الأحكام فكيف في سائر الأمور من ابن الخطّاب و أمثاله، و قد صرّح بذلك عليّ (عليه السّلام) في كلام له في الباب (الوسائل كتاب الارث باب التعصيب و العول).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 376

الخامس: للرّجال نصيب و للنساء نصيب، و لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.

السادس: فريضة البنت الواحدة النصف و البنتان فما فوقهما الثلثان.

السابع: فريضة كل واحد من الأبوين السدس اذا كان له ولد و للأمّ الثلث اذا لم يكن له ولد و لا حاجب يمنعها من الاخوة و إلا فلها السدس.

الثامن: فريضة الزوج عن زوجته النصف اذا لم يكن لها ولد منه أو من غيره، و الربع اذا كان لها ولد كذلك.

التاسع: فريضة الزوجة عن الزوج الربع اذا لم يكن له ولد منها أو من غيرها، و الثمن اذا كان له ولد كذلك نصف الفرضين للزوج و المرأة نصف الرجل.

العاشر: الزّوجان يرثان مع كل وارث من أيّ مرتبة.

الحادي عشر: الكلالة ورثة من لا ولد له و لا والد من الاخوة الاميّة لهم السدس ان كانت واحدة، و الثلث ان كانوا أكثر بالشركة مطلقا.

الثاني عشر: الاخوة غير الاميّة فريضتهم النصف ان كانت واحدة، و الثلثان لأختين فصاعدا، و ان كانوا إخوة رجالا و نساء ف لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، و الابنيّة منهم مقدّم علي الأبيّة بأولوية الرحميّة.

الثالث عشر: يستجب اعطاء شي ء من التركة لمن حضر القسمة من ذوي القربي و اليتامي و المساكين غير أولي الأرحام الورثة كاستحباب الانفاق علي من حضر المحصد يوم الحصاد.

الرابع عشر: الارث بعد الوصيّة غير المضارّة أي غير

المتجاوز عن الثلث و بعد الدين، فلا إرث و قد استوفي الدين التركة و لا في الثلث اذا استوفته الوصيّة.

الخامس عشر: لا عول عندنا و لا تعصيب، فلا نكثر عائلة الفروض بايقاع النقص علي الجميع و لا تردّ الزيادة عنها الي العصبة سائر الأقرباء عند عدم توافق الفريضة السهام بل النقيصة علي من أخره اللّه من ذوي الفروض الواحدة و الزّيادة الي ذوي الفروض كما عرفت.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 377

و الي هنا تمّ كتاب الارث آخر الكتب حسب ترتيبنا من (فقه القرآن) و بحمد اللّه تعالي، و نشكره علي ما وفّقنا لاتمام هذا المجهود، و نرجو من اللّه تعالي ان يجعله زادا ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون و نلتمس عمّن نظر فيه دعاء الخير و اللّه رءوف بالعباد «1».

______________________________

(1)- تمّ في يوم 10 جمادي الأولي/ 1395 ه. ق المطابق ليوم 1/ 2/ 1354 ه. ش في مدينة رودبار و الحمد للّه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 379

كتاب الدعاء و الابتهال

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 381

الدعاء و الابتهال في القرآن الكريم

و لنختم مجهودنا بمسألة الدعاء و الابتهال في القرآن الكريم لعلّ اللّه تعالي يتقبّل منّا و يجعله ذخرا ليوم المعاد يوم لا ينفع مال و لا بنون و ليس فيه خلّة و لا شفاعة إلّا لمن ارتضي، و الترجي لما فيه من آيات اللّه التي فصّلت من لدن حكيم خبير و لما فيها من اسمائه الحسني التي أمرنا بدعائه بها و وعدنا الاجابة فانه قريب مجيب.

و ان لم يكن بما فيه مما استظهرناه عنها بتوفيقه و عنايته بشي ء يليق ان يعدّ ضمن مجهودات الأصحاب (رضوان اللّه تعالي عليهم) إلا انّه تعالي يقبل اليسير و يعفو

عن الكثير و هو الرءوف الرحيم.

الدعاء و الابتهال (أي نداء اللّه تعالي بأسمائه الحسني) و الاسترسال في ذلك بالتضرّع و التذلل ثم طلب الخير و السعادة و كل ما يراد في الدنيا و الآخرة، راجح مسنون في الجملة، فانه بعد الفراغ من كونه عبادة، يتقرّب به العبد، و اللّه سميع الدعاء، و كثيرا ما يجيبه و يقضي حاجته، فهو ذكر اللّه تعالي تطمئن به القلوب. و لا يعني اللجوء الي الدعاء ترك النظام الطبيعي و طلب الأمور عنه تعالي عن غير مجاريها و أسبابها المقررة المودعة و قد أبي أن يجريها إلا بها، بل هو واقع في المجري بين حلق سلسلة العلل و لا تنحصر بالطبيعيّة. و المحال هو المعلول بلا علّة لا بلا علة طبيعية، مع ان المطلوب الأكثر في الدعاء شمول عنايته تعالي و إرادته السارية الكلية لانتهاء تلك العلل الطبيعية أيضا الي ما هو المراد بعدم ظهور مانع من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 382

سلسلة أخري منظمة في المجموع بأحسن نظم «1» فصل في محلّه.

و كيف كان، فالبحث يتضمن- بعد رجحان أصل الدعاء- وجه الداعي، و ما يدعو به، و ما هو المطلوب فيه، و في كل آيات نشير إليها خلال أمور:

الأمر الأول: في أصل رجحان الدعاء و مطلوبيته

و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ قٰالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِينَ. (المؤمن [40] الآية 60)

صراحة الآية ان اللّه تعالي أمر عباده بدعائه و طلب الخير منه، و وعدهم بإجابتهم علي قضاء حاجتهم، فان الاستجابة هنا الإجابة، و هم يعبدونه بذلك أيضا، و المستكبرون عن عبادته سيدخلون جهنّم أذلّاء داخرين «2». و الأمر يفيد الوجوب بعد أصل المطلوبية و الرجحان، و لا يبعد ذلك بطبعه

الكلي في الجملة لئلا يجوز تركه المطلق مطلقا كما لا يخفي.

الثانية- قوله تعالي:

وَ إِذٰا سَأَلَكَ عِبٰادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّٰاعِ إِذٰا دَعٰانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ. (البقرة [2] الآية 186)

الظاهر انقطاع سياق الآية عن بحث الصوم و آياته. و أنّ المخاطب هو النبيّ الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الداعي الي اللّه تعالي حتي يجيب سؤال العباد عن قرب اللّه تعالي و بعده، و هل يسمع نداءهم فيجيبهم أو لا؟ بأنه قريب يسمع و يجيب دعوة الداعي

______________________________

(1)- يمحو اللّه ما يشاء و يثبت و عنده أمّ الكتاب (الرعد [13] الآية 39) و مع ذلك النظام أحسن نظم.

(2)- و من المعلوم ان المراد مطلق العبادة فان ترك الدعاء لا يصلي جهنّم فلا يتمّ حمل البعض عليه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 383

اذا دعاه بل هو أقرب إليكم من حبل الوريد و ما يكون من نجوي ثلاثة إلّا هو رابعهم و لا خمسة إلا هو سادسهم و لا أدني من ذلك و لا أكثر إلا هو معهم، فكيف باستماع النداء، فعلي العباد ان يدعوه تعالي و يستجيبوا له و هم مؤمنون باجابته، و انه بكل شي ء محيط، و علي كل شي ء قدير. و دلالة الأمر بالاستجابة و طلب الجواب لدعاء الخير علي مطلوبيّة ذلك، بل الوجوب في الجملة مما هو ظاهر.

الثالثة- قوله تعالي:

قُلْ مٰا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لٰا دُعٰاؤُكُمْ. (الفرقان [25] الآية 77)

صراحة الآية في ان اللّه تعالي لا يعبأ بالعباد و لا يبالي بهم في مجريات الأمور في نظام الخلقة علي أنظمتها و مجاريها، و افق مطالب العباد أو خالف، لو لا دعاؤهم و طلبهم الخير منه تعالي، فانه

عند دعائهم، يجيبهم و يقضي حاجتهم، و يجري الأمور علي مجاريها بوجه ينتهي الي مقاصدهم التي فيها صلاحهم في الدنيا و الآخرة بإرادته و قدرته الشاملة السارية في شراشر الوجود يَمْحُوا اللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتٰابِ (الرعد [13] الآية 39).

الأمر الثاني: في كيفية الدعاء حسب حال الداعي

و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَ لٰا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلٰاحِهٰا وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّٰهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.

(الاعراف [7] الآية 55- 56)

الآية- كما تري- تتكئ علي حالة الدعاء بعد الأمر بأصله، بانه لا بدّ و ان يكون

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 384

تضرّعا و تذللا بأن يتضعف الداعي علي فناء مولاه، و قد خلق ضعيفا، و يتعبّد بذيل عنايته مظهرا عظم الربّ و صغر المربوب، معلنا إحاطة قدرة الخالق وسعة إرادته، معترفا: لا شيئية المخلوق و محكوميّته في نظام الخلقة و إرادة الخالق.

ثم ان ذلك ينبغي ان يكون علي تستر و اختفاء عن الناس، فانه أطهر عن الرياء و أوثق بينه و بين اللّه، و الليل و الظلمة من عوامل التستّر و التوجّه، فانّ ناشئة الليل هي أشدّ وطأ و أقوم قيلا.

و أيضا ينبغي ان يكون علي خوف و رجاء فيدعو اللّه خوفا من عذابه و عقابه و طمعا في ثوابه و رحمته فان رحمة اللّه قريب من المحسنين، و المؤمن لا يكون مؤمنا حتي يكون خائفا راجيا، و لا يكون خائفا راجيا حتي يترك ما يخاف و يعمل لما يرجو، فان الركون الي كل منهما يوجب هويّ الانسان نحو الذنب و المخالفة.

فالداعي لا بدّ و ان يكون حال دعائه متضرّعا مبتعدا عن الرئاء، متوسّطا بين الخوف و الرجاء،

الحالة التي يكون عليها المؤمن دائما، فاللّه تعالي يجيبه فإنه قريب مجيب.

الثانية- قوله تعالي:

فَادْعُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكٰافِرُونَ. (المؤمن [40] الآية 14)

الأمر في الآية متعلّق بالاخلاص في دعاء اللّه تعالي مترتّبا علي انّه تعالي هو الذي يريكم آياته و ينزل لكم من السماء رزقا، و الخلوص الخلو عن غيره و عن كل ما هو دونه، فعلي العبد ان يدعوه متيقنا ان الأمر بيده و انه رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره علي من يشاء من عباده، و هو بكل شي ء عليم، و عليه قدير، و له الخلق و الأمر، و بيده مقاليد السموات و الأرض، فليس دعاء الغير إلا في ضلال.

الثالثة- قوله تعالي:

هُوَ الْحَيُّ لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ.

(المؤمن [40] الآية 65)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 385

الأمر أيضا بالاخلاص في دعائه تعالي مترتبا علي انه هو الحيّ القيوم و ان لا إله و لا ملجأ إلا هو، فانه الذي جعل لكم الأرض قرارا، و السماء بناء، و صوّركم فأحسن صوركم و رزقكم من الطيّبات، ذلكم اللّه ربّكم فتبارك اللّه ربّ العالمين.. يفيد ضرورة الاخلاص و وجوبه في دعائه تعالي و نفي كل شي ء غيره مما يشركون، و ذلك بعد العلم بأنّ كل خير و رحمة و فضل و رأفة و كل وجود و نور ليس إلا عنه تعالي، فالحمد للّه ربّ العالمين.

الرابعة- قوله تعالي:

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. (الأعراف [7] الآية 29)

في الآية أيضا تعلّق الأمر بالاخلاص في دعائه تعالي بعد الأمر بالقسط و اقامة الوجوه عند كل مسجد،

فانه تعالي بيده مبدأ كل أمر و ختامه في الدنيا و الآخرة، كما بدأكم تعودون، و هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن، و هو علي كل شي ء شهيد، و ليس اقامة الوجوه و استواؤها عند كل مسجد إلا توجيهها إليه تعالي و تصعيرها عن كل ما دونه و توجيه الوجه إليه تعالي فقط تقدمة لدعائه خالصا مخلصا عن غيره، و هكذا ينبغي ان يكون دعاء العبد ربّه بل لا بدّ و ان يكون لمكان الأمر.

لا يقال: ان السياق في تلك الآيات الثلاث يفيد انصراف ظهورها عن مسألة الدعاء المبحوث عنها، و انها راجعة الي بحث التوحيد و نفي الشرك و ان علي العباد الاخلاص في عبادته و الايمان به فقط بنفي الغير مما يشركون.

ألا تري ما في الأولي من سبق البحث في التوحيد و نفي الشرك عنه قوله تعالي: ذٰلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذٰا دُعِيَ اللّٰهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلّٰهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (المؤمن [40] الآية 12) و في الثانية من لحوق ذلك: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ … (المؤمن [40] الآية 66) و كذلك في الثالثة: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيٰاطِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (الاعراف [7] الآية 30).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 386

فانه يقال: نعم و ان كان الأمر كذلك في الجملة، و لكن حيث ان الأمر بالدعاء غير الأمر بالعبادة في القرآن الكريم- كما تراه في مواضعهما- فالظهور قوي فيما استظهرناه، فان ظاهر قوله تعالي: وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتّٰي يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أو قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ و فَلٰا تَجْعَلُوا لِلّٰهِ أَنْدٰاداً غير ما نحن فيه من قوله

تعالي: فَادْعُوهُ [أو و ادعوه] مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، مع ان الاطلاق يشمل حال الدعاء من العبادات أيضا فانه منها، و الاخلاص عندها آكد و ألزم بعد استقامة الوجه و توجيهه بل ماهيّتها تتقوّم به كما حقّق في محلّه.

الأمر الثالث: فيما ينبغي ان يدعي به اللّه تعالي من الاسماء

و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ لِلّٰهِ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنيٰ فَادْعُوهُ بِهٰا وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمٰائِهِ سَيُجْزَوْنَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ. (الاعراف [7] الآية 180)

الآية- كما تري- تفيد أنّ للّه تعالي اسماء خاصة حسني، و لا بدّ من دعائه بها، و ترك الذين يلحدون في اسمائه و ينادونه بما يتوهّمون له من الأسماء.

و المستفاد منها أوّلا ان أسماء اللّه تعالي توقيفيّة محدودة بما سمّي به نفسه، و موقوف فيما اطلق عليه تعالي في الكتاب الكريم أو السنة القطعيّة، فلا يجوز دعاؤه بما هو صحيح علما غير مطلق عليه شرعا مثل بحث الوجود، وجود البحث، أو واجب الوجود و المبدأ الفيّاض و أشباه ذلك «1».

و ثانيا ان له الاسماء الحسني أجمعها، لها و للأوصاف الموضع المسمّي في

______________________________

(1)- قال عليّ (عليه السّلام): … فانظر ايها السائل، فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتم به …

نهج البلاغة خطبة 91 ص 125

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 387

الآية لفظ الجلالة: اللّه تعالي، و هو الأكثر اطلاقا عليه في الكتاب و السنة.

و أخيرا الأمر بدعائه تعالي بتلك الأسماء الحسني و ترك غيرها.

فلا بدّ و ان يبدأ الدعاء ب (اللّهم) أو (يا اللّه) و أمثالهما دون يا واجب الوجود و يا مفيض الفيض و مشرقه و أمثال ذلك، فكيف بما يدعونه به الملحدون في اسمائه ممّا يشركون من الأصنام اللاتي كانوا يتقرّبون بها و يقولون و ما نعبدهم إلا ليقرّبونا الي اللّه زلفي، فانه أمر

بتركهم بأنفسهم فكيف بدعائهم.

الثانية- قوله تعالي:

قُلِ ادْعُوا اللّٰهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمٰنَ أَيًّا مٰا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنيٰ.

(الاسراء [17] الآية 110)

الآية بعد ما تفيد انه لا فرق في دعاء اللّه تعالي بين اسم الجلالة أو وصف الرحمة، تشير الي ما هو مفروغ عنه من ان له الاسماء الحسني لا بدّ و ان يدعي بها حال دعائه و ندائه، فكأنّ نقطة الثقل و الغرض الأساس في الآية بيان المساواة بين اسمائه الحسني في الدعاء بعد الفراغ عن أصل الانحصار بها، فكما يجوز ان يدعوه تعالي بقوله (يا اللّه) و (يا رحمن) يجوز الدعاء بسائر اسمائه الحسني و أوصافه بقوله يا رحيم يا رءوف يا ودود و … من البسائط أو يا ربّ العالمين، يا ربّ العزّة يا مالك الملك، و يا ذا العرض المجيد و غيرها من المركّبات «1».

______________________________

(1) و البسائط منها في الكتاب الكريم كما تصفحه بعض تسعة و مائة و المركبات سبعون يبلغ جمعها تسعة و سبعين و مائة. فهارس القرآن للفاضل محمود راميار.

نعم هنا مسألة أخري و هي دعاؤه تعالي باسماء غير واردة في الكتاب مثل العطوف و الصبور و المسئول:

(الجوشن الكبير 57 ص 94) و الوكيل و الفرد و الوتر و الصبور و … دعاء المجير ص 83 و في المركبات مثل قرة عين المساكين (دعاء اليوم الثالث عشر من شهر رمضان ص 240 مفاتيح الجنان) فان اسماءه تعالي توقيفيّ و أَيًّا مٰا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنيٰ … لا بدّ من التأمّل في ذلك.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 388

الأمر الرابع: فيما ينبغي ان يبتغيه الداعي و يطلبه من اللّه تعالي

فان سؤال الرخيص لا يناسب شأن القويّ الغني العزيز، و القرآن في المقام يحكي مطالب الأنبياء العظام و مقاصد عباد اللّه الصالحين تعليما لذلك،

نشير إليها في شطرين حتي نقتفي أثرهم: قَدْ كٰانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرٰاهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ (الممتحنة [60] الآية 4).

و من المعلوم ان الأنبياء (علي نبينا و آله و عليهم السلام) قد كان في أدعيتهم ما يناسب مقام نبوّتهم و ولايتهم علي الناس، و كانوا يطلبون من اللّه بما هم أنبياء مسئولون و أولياء مأمورون دون عباد اللّه الصالحين علي الحد، و كل انسان راع و مسئول، كما عن رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) «كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته».

و كيف كان، ففي الشطر الأول آيات أدعية أنبياء أولي العزم و غيرهم عليهم السّلام:

1- فعن نوح النبي (عليه السّلام) بعد ما كذّبه قومه و قالوا انه مجنون، و بعد ما يئس عن قومه و طال زمان دعوته و قصر و قلّ اجابة الناس ايّاه دعا ربّه و قال: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ* فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الشعراء [26] الآية 177- 118)، وَ قٰالَ نُوحٌ رَبِّ لٰا تَذَرْ عَلَي الْأَرْضِ مِنَ الْكٰافِرِينَ دَيّٰاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبٰادَكَ وَ لٰا يَلِدُوا إِلّٰا فٰاجِراً كَفّٰاراً* رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوٰالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ وَ لٰا تَزِدِ الظّٰالِمِينَ إِلّٰا تَبٰاراً (نوح [71] الآيات 26- 28).

و من المعلوم انّه (عليه السّلام) كان مشفقا علي الناس حريضا علي خيرهم و سعادتهم، فيطلب منه تعالي و يدعوه لينصره و يؤيّده علي دينه حتي يتمكّن من إرشاد الناس و هدايتهم، و ما كان يدعو عليهم و لم يطلب تبارهم إلا بعد ما طالت دعوته و يئس منهم معللا بأنهم يضلّون العباد و

لا يلدون إلا فاجرا كفّارا، و كان يتأثر و يتأسف علي ما يري من مسير الناس سبيلهم الي الضلال و الفجور، ثم بعد ذلك

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 389

يدعو و يطلب الغفران له و لوالديه و لأهل بيته اذا كانوا مؤمنين «1» و لغيرهم من المؤمنين و المؤمنات، ثم يؤكد ما دعا به أوّلا علي الكفّار.

فمحصل مطالبه و مبتغياته (عليه السّلام) من اللّه تعالي نصرته في اعلاء كلمة اللّه و شعار الحق بأيّ وجه ممكن، ثم سعادة الناس و هدايتهم، و غفران اللّه تعالي عن معاصيهم السالفة، و اخيرا هلاك الظالمين و تبارهم، معلّلا بصدّهم عن سبيل الحق علي العباد. و قد استجيب دعاؤه (عليه السّلام). قال تعالي: فَفَتَحْنٰا أَبْوٰابَ السَّمٰاءِ بِمٰاءٍ مُنْهَمِرٍ (القمر [45] الآية 11)، و في نهاية القصّة قال: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبٰارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (المؤمنون [23] الآية 29).

و التقييد بالايمان في دعائه لمن دخل بيته يشعر الي عدم جواز الدعاء للكفّار و من بحكمهم و لو كانوا من أقرب الأقرباء، كما عرفت في كتاب المحرّمات- ختام بحث تولّي الكفار.

2- و عن ابراهيم (عليه السّلام) حينما كان يرفع قواعد البيت أول ما وضع للناس ببكة مباركا مع ابنه إسماعيل: رَبَّنٰا تَقَبَّلْ مِنّٰا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنٰا وَ اجْعَلْنٰا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنٰا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنٰا مَنٰاسِكَنٰا وَ تُبْ عَلَيْنٰا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّٰابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنٰا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. (البقرة [2] الآية 127- 129)

و محصل ما استدعياه من اللّه تعالي قبول العمل العبادي أوّلا، فان الامتثال و اسقاط التكليف غير ما يقع

مقبولا لدي المولي و مرضيا عنده، و أين هو من ذلك؟

ثم الدوام و البقاء علي الاسلام و هو التسليم له تعالي في كل حال ثانيا، و هو أعلي درجة تحصل للعبد بفناء مولاه و أوثق و أثبت حبل يعتصم به و لم يختصا به انفسهما بل وسّعا ذلك لذرّيتهما، و الانسان لا بدّ و ان يعتني بشأن الذين يأتون من بعده من الأجيال، فان حياة المجتمع أشمل و أقوي من الفرد، ثم دعوا اللّه ثالثا و طلبا منه

______________________________

(1) و قال: «رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

(الشعراء [26] الآية 117- 118)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 390

تعالي إراءة المناسك في معرفة الوظائف حتي يعبد اللّه مع العلم و يتمّ التوبة و الرجوع إليه انّه هو التوّاب الرحيم، و اخيرا الدعاء للناس و الأمّة ليبعث فيهم رسولا يكون منهم حتي يعرفهم بافتقاراتهم و يعرفونه فيتلو عليهم آياته و يهديهم إليه تعالي فيعبدونه وحده من غير شريك و يعطيهم الكتاب و الحكمة حتي يتّسعوا في العلم و يكونوا قوما عالمين متمتعين بما خلق اللّه لهم بوجه حسن و يبلغوا مراحل انسانية عالية، و اللّه هو العزيز الحكيم.

و تلك الأمور و الأدعية، له و لأولاده و ذريّته و قومه و أمّته في سبيل الحق و الدين و الخير و السعادة مجتمعة في دعائه الآخر المنقول في قوله تعالي: وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «1» وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنٰامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّٰاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصٰانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* رَبَّنٰا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوٰادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ

عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنٰا لِيُقِيمُوا الصَّلٰاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّٰاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ* رَبَّنٰا إِنَّكَ تَعْلَمُ مٰا نُخْفِي وَ مٰا نُعْلِنُ وَ مٰا يَخْفيٰ عَلَي اللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا فِي السَّمٰاءِ* الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَي الْكِبَرِ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعٰاءِ* رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلٰاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنٰا وَ تَقَبَّلْ دُعٰاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوٰالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسٰابُ. (ابراهيم [14] الآيات 35- 41)

فان محصل ادعيته (عليه السّلام) في المقام أمن مكة (خير البلاد) لتكون حرما يعبدون اللّه تعالي فيه علي الاطمئنان، و تجنّبه و أولاده عن عبادة الأصنام، فانهنّ أضللن كثيرا من الناس عن عبادة اللّه و سبيل الحق، ثم دعاؤه (عليه السّلام) من اللّه تعالي توجّه الناس الي ذلك البيت … بيت اللّه الحرام.. و ذرّيته التي أسكنهم بالوادي ليقيموا الصلاة و رزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون، فيدعو ربّه ليجعله و ذرّيته مقيمي الصلاة و ان يقبل دعاءه و يغفر له و لوالديه و للمؤمنين يوم يقوم الحساب. و خلال

______________________________

(1) و قد استجيب دعاؤه (عليه السّلام)، قال تعالي: «وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثٰابَةً لِلنّٰاسِ وَ أَمْناً» (البقرة [2] الآية 125).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 391

ذلك يشكر اللّه تعالي و يحمده علي ما أنعم عليه و وهب له علي الكبر إسماعيل و إسحاق فانه يسمع الدعاء، و قد دعا ربّه قبلا و قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّٰالِحِينَ (الصافات [37] الآية 100)، و استجيب له قال تعالي: فَبَشَّرْنٰاهُ بِغُلٰامٍ حَلِيمٍ و بعد تفصيل قصّة ذبح إسماعيل و فداء اللّه تعالي بذبح عظيم: بَشَّرْنٰاهُ بِإِسْحٰاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّٰالِحِينَ.

و يرجع ذلك

كلّه أيضا الي تمكّنه و ذريّته و أمّته و توفيق الناس لعبادة الحق و اقامة الصلاة و شكر النعمة و الغفران في الآخرة، و لم يستدع توجّه الناس الي ذريّته و ارزاقهم اللّه بما هم كذلك بل ليقيموا الصلاة و لعلّهم يشكرون.

فكان (عليه السّلام) مشفقا علي ذريّته و أمّته و الناس، و طالبا لهم الخير الأصلي (الايمان باللّه تعالي و اطاعته و الشكر له) كما كان مشفقا علي نفسه و قد دعا ربّه في موضع آخر حال احتجاجاته مع قومه و دعوتهم الي اللّه و تركهم الأصنام، و بعد توجهه الي اللّه تعالي الذي بيده الأمور: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ* وَ إِذٰا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ* رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّٰالِحِينَ* وَ اجْعَلْ لِي لِسٰانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ* وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ* وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كٰانَ مِنَ الضّٰالِّينَ* وَ لٰا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. (الشعراء [26] الآيات 78- 87)

و اما مسألة ضلالة أبيه بل أبوّة الضال له، فقد فصّلنا الكلام فيها في كتاب المحرّمات- ختام بحث تولّي الكفار. و عليه فمدار أدعية ابراهيم و إسماعيل (عليهما السّلام) معرفة الوظائف الالهيّة و توفيق العمل بها و قبول ذلك العمل من اللّه تعالي لأنفسهما و ذريّتهما و للناس جميعا و غفران اللّه تعالي يوم الحساب، فأصل المطلوب ليس إلا علوّ كلمة اللّه و تحقق سعادة الناس بالعبوديّة الحقّة.

3- و عن موسي (عليه السّلام) بعد ما رجع الي قومه غضبان من شركهم باتّباعهم السامريّ و اتّخاذهم العجل، و بعد تهديده اخاه هارون و اعتذار اخيه

بأن القوم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 392

استضعفوني: قٰالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنٰا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرّٰاحِمِينَ (الاعراف [7] الآية 151).

و كذلك بعد ما اخذت الرجفة الذين اختارهم موسي من قومه سبعين رجلا و شبه تعرضه بانّه ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل قال: أَنْتَ وَلِيُّنٰا فَاغْفِرْ لَنٰا وَ ارْحَمْنٰا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغٰافِرِينَ* وَ اكْتُبْ لَنٰا فِي هٰذِهِ الدُّنْيٰا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنّٰا هُدْنٰا إِلَيْكَ (الاعراف [7] الآية 155- 156).

و عند ما اشتد عليه الأمر من عناد الناس و كفرهم: فَدَعٰا رَبَّهُ أَنَّ هٰؤُلٰاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (الدخان [44] الآية 22) و: قٰالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ (القصص [28] الآية 21).

وَ قٰالَ مُوسيٰ رَبَّنٰا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوٰالًا فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا رَبَّنٰا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَليٰ أَمْوٰالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَليٰ قُلُوبِهِمْ فَلٰا يُؤْمِنُوا حَتّٰي يَرَوُا الْعَذٰابَ الْأَلِيمَ (يونس [10] الآية 88).

قٰالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنٰا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرّٰاحِمِينَ (الاعراف [7] الآية 151).

و محصل تلك الأدعية أيضا الناشئة عن الولع الشديد بهداية الناس و سعادتهم في ظلال كلمة التوحيد و شريعة الحق الاسلامية التابعة عن ملة ابراهيم حنيفا.. طلب الغفران عمّا مضي و شمول رحمة اللّه تعالي لما يأتي و ازالة عوامل ضلالة الناس و طغيانهم حتي يطّهروا عن الأرجاس و يهتدوا الي الخير و الحق و الدين لتكون كلمة اللّه هي العليا و يكونوا ممن كتب لهم في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة كما كان ذلك هو المطلوب في أول أمره عند دعائه المستجاب «1».

4- و عن عيسي (عليه السّلام) بعد ما آمن باللّه و رسوله

الحواريون بوحي من اللّه

______________________________

(1)- فانه (عليه السّلام) بعد ما أمر بقوله تعالي «اذْهَبْ إِليٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغيٰ* قٰالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسٰانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي الي قوله تعالي: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰا مُوسيٰ».

(طه [20] الآيات 24- 36)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 393

تعالي و توفيقه، ثم قالوا يا عيسي هل يستطيع ربك ان ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا اللّه ان كنتم مؤمنين، فلم ينف ذلك و لم يردّهم بل أشار الي ان الأمور تجري في مجاريها الطبيعية التي جعلها لها ربّ العالمين، و لا يلازم الايمان به نقضها بل تلك المجاري بأنفسها آيات للّه تعالي و علامات لقدرته و علمه و حياته و ارادته، و مع ذلك كلّه فهو علي كل شي ء قدير: قٰالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهٰا وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنٰا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنٰا وَ نَكُونَ عَلَيْهٰا مِنَ الشّٰاهِدِينَ (المائدة [5] الآية 113)، قٰالَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ اللّٰهُمَّ رَبَّنٰا أَنْزِلْ عَلَيْنٰا مٰائِدَةً مِنَ السَّمٰاءِ تَكُونُ لَنٰا عِيداً لِأَوَّلِنٰا وَ آخِرِنٰا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنٰا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرّٰازِقِينَ (المائدة [5] الآية 114).

فقد نادي (عليه السّلام) ربّه و دعاه لينزل عليهم مائدة من السماء مع انّه أمر غير طبيعي لا يطلب إلا في موارد خاصة، و لذلك علّله بأن يكون آية من اللّه تعالي وعيدا لهم تثبيتا لدين الحق و تحكيما لشريعة اللّه و اطمئنانا لقلوب المؤمنين، و طلب الرزق ذيلا و ان كان يشمل ذلك المائدة و لكنه لا يختصّ به بل يطلب الرزق مطلقا علي معناه الأعم فانه خير الرازقين.

و محصل مطلوبه (عليه السّلام) من اللّه تعالي ظهور اعجاز و آية من

اللّه تعالي زائدا علي ما كان اعلاء لكلمة الحق و تحقيقا للدين و تثبيتا لقدرته تعالي علي كل شي ء إِذْ قٰالَ الْحَوٰارِيُّونَ يٰا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنٰا مٰائِدَةً مِنَ السَّمٰاءِ قٰالَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قٰالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهٰا وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنٰا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنٰا وَ نَكُونَ عَلَيْهٰا مِنَ الشّٰاهِدِينَ، فان الايمان بالقدرة عن المجاري الطبيعية و رؤية قدرته تعالي نفسها مما يحتاج الي عيون أنفذ و أبصار أحدّ كما يشير إليه قوله اتَّقُوا اللّٰهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و اما في خرق العادة و نقض الطبيعة فيراه كل أحد كما يشير إليه جوابهم نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهٰا وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنٰا.

هذا كلّه في أدعية الأنبياء أولي العزم منهم، و قريب منها في غيرهم، ألا تري ان سليمان (عليه السّلام) مع عظمته و سلطته قال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 394

أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَليٰ وٰالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبٰادِكَ الصّٰالِحِينَ (النمل [27] الآية 19)، بعد ما طلب من ربّه ملكا في قوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لٰا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّٰابُ (ص [38] الآية 35)، فاستجاب له ربّه و وهبه الملك فتوجّه الي توفيق شكر النعمة و اداء حقها و ان يكون من عباد اللّه الصالحين، و كذلك زكريا (عليه السّلام) حينما رأي مقام مريم و تقرّبها الي اللّه تعالي: كُلَّمٰا دَخَلَ عَلَيْهٰا زَكَرِيَّا الْمِحْرٰابَ وَجَدَ عِنْدَهٰا رِزْقاً قٰالَ يٰا مَرْيَمُ أَنّٰي لَكِ هٰذٰا قٰالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ (آل عمران [3] الآية 37)،

هُنٰالِكَ دَعٰا زَكَرِيّٰا رَبَّهُ قٰالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعٰاءِ (آل عمران [3] الآية 38)، فأجيب دعاؤه و أعطاه ربّه سؤله: فَنٰادَتْهُ الْمَلٰائِكَةُ وَ هُوَ قٰائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرٰابِ أَنَّ اللّٰهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْييٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّٰهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصّٰالِحِينَ (آل عمران [3] الآية 39).

و المطلوب في دعائه (عليه السّلام) كما تري ذريّة طيبة يعبدون اللّه علي أرضه و لا يشركون به شيئا، كما تقصّ أيضا سورة مريم بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ كهيعص* ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّٰا* إِذْ نٰاديٰ رَبَّهُ نِدٰاءً خَفِيًّا* قٰالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعٰائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوٰالِيَ مِنْ وَرٰائِي وَ كٰانَتِ امْرَأَتِي عٰاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا* يٰا زَكَرِيّٰا إِنّٰا نُبَشِّرُكَ بِغُلٰامٍ اسْمُهُ يَحْييٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (مريم [19] الآيات 1- 7) فطلب كونه رضيّا.

و كذلك دعاء يوسف الصدّيق (عليه السّلام) حينما هددته امرأة العزيز بقولها وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مٰا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصّٰاغِرِينَ* قٰالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلّٰا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجٰاهِلِينَ* فَاسْتَجٰابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (يوسف [12] الآيات 32- 34).

و بعد ما نجي و ملك مصر و أنعم عليه اللّه (تعالي) بالنعم الي ان رفع أبويه علي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 395

العرش و خرّوا له سجّدا و ابتهل في دعاء ربّه شكرا علي نعمائه و قال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ

تَأْوِيلِ الْأَحٰادِيثِ فٰاطِرَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّٰالِحِينَ (يوسف [12] الآية 101).

فكان محصل دعائه (عليه السّلام) أيضا راجعا الي المعني من التحفّظ من الذنب و من عصيان اللّه و لو بالسجن فان النفس لأمارة بالسوء ثم التوفي مسلما بالبقاء علي الاسلام و التسليم للمولي و أوامره في تمام أوقات الحياة، و اخيرا اللحوق بالصالحين مع الشكر علي النعماء «1» و الاعتراف بولاية اللّه المطلقة في الدنيا و الآخرة.

و كذلك دعاء لوط (عليه السّلام) في قوله: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَي الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (العنكبوت [29] الآية 30)، و دعا يونس (عليه السّلام) في قوله: لٰا إِلٰهَ إِلّٰا أَنْتَ سُبْحٰانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّٰالِمِينَ (الأنبياء [21] الآية 87)، و دعاء شعيب (عليه السّلام) في قوله:

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَ قَوْمِنٰا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفٰاتِحِينَ (الأعراف [7] الآية 89)، و دعا أيوب (عليه السّلام) وَ أَيُّوبَ إِذْ نٰاديٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرّٰاحِمِينَ (الأنبياء [21] الآية 83).

و ما وجدنا في أدعية أنبياء اللّه العظام كما رأيت طلب شي ء من المحقرات بل المعظمات من ضروريات تلك الحياة الأدني بل كانوا متوجهين الي أصول الحياة و حقيقتها الثابتة و يدعون اللّه تعالي لتوفيق نيلها بمراتبها حياة طيّبة. و لنا فيهم اسوة و علينا منهم الاتّباع. اللّهم احينا حياة طيّبة و ارزقنا السعادة و السماحة و الكرامة و اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة.

و أما الشطر الثاني من الأمر الرابع فنشير فيه الي 1) دعاء الانسان بنوعه، 2) أقوام الأنبياء، 3) أولي الألباب، 4) المؤمنين و المؤمنات، 5) الصابرين الصادقين، 6) عباد الرحمن، 7) الراسخين في

العلم، 8) و المبتلين بعذاب الطغاة في سبيل الحق، 9) و المجاهدين، بمتونها المنقولة في القرآن الكريم، ثم نري المطلوب

______________________________

(1)- و عن سليمان حينما سمع مقالة النملة: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَليٰ وٰالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبٰادِكَ الصّٰالِحِينَ». (النمل [27] الآية 19)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 396

المشترك في الجميع و ما هو وجهة همتهم في الكل ان شاء اللّه لنتربي و نتأدّب بهم.

1- قال تعالي:

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ إِحْسٰاناً الي قوله تعالي: قٰالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَليٰ وٰالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. (الاحقاف [46] الآية 15)

2- و قال تعالي حكاية عن ابراهيم و الذين معه:

رَبَّنٰا لٰا تَجْعَلْنٰا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنٰا رَبَّنٰا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

(الممتحنة [60] الآية 5)

2- و قال تعالي حكاية عن موسي «1»:

فَقٰالُوا عَلَي اللّٰهِ تَوَكَّلْنٰا رَبَّنٰا لٰا تَجْعَلْنٰا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ وَ نَجِّنٰا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكٰافِرِينَ. (يونس [10] الآية 85- 86)

2- و قال تعالي حكاية عن الذين آمنوا مع النبي الخاتم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الذين نورهم يسعي بين أيديهم و بأيمانهم:

يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَتْمِمْ لَنٰا نُورَنٰا وَ اغْفِرْ لَنٰا إِنَّكَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.

(التحريم [66] الآية 8)

3- و قال تعالي عن أولي الألباب:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَليٰ جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلًا سُبْحٰانَكَ فَقِنٰا عَذٰابَ النّٰارِ* رَبَّنٰا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّٰارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ* رَبَّنٰا إِنَّنٰا سَمِعْنٰا مُنٰادِياً يُنٰادِي لِلْإِيمٰانِ

أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّٰا رَبَّنٰا فَاغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا وَ كَفِّرْ عَنّٰا سَيِّئٰاتِنٰا وَ تَوَفَّنٰا مَعَ الْأَبْرٰارِ* رَبَّنٰا وَ آتِنٰا مٰا وَعَدْتَنٰا عَليٰ رُسُلِكَ وَ لٰا تُخْزِنٰا يَوْمَ الْقِيٰامَةِ إِنَّكَ لٰا تُخْلِفُ الْمِيعٰادَ* فَاسْتَجٰابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ … (آل عمران [3] الآيات 191- 195)

______________________________

(1)- الذين آمنوا به ذريّة من قومه علي خوف من فرعون و ملئه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 397

4- و قال تعالي حكاية عن المؤمنين الذين آمنوا باللّه و كتبه و رسله و قالوا سمعنا و أطعنا:

رَبَّنٰا لٰا تُؤٰاخِذْنٰا إِنْ نَسِينٰا أَوْ أَخْطَأْنٰا رَبَّنٰا وَ لٰا تَحْمِلْ عَلَيْنٰا إِصْراً كَمٰا حَمَلْتَهُ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنٰا رَبَّنٰا وَ لٰا تُحَمِّلْنٰا مٰا لٰا طٰاقَةَ لَنٰا بِهِ وَ اعْفُ عَنّٰا وَ اغْفِرْ لَنٰا وَ ارْحَمْنٰا أَنْتَ مَوْلٰانٰا فَانْصُرْنٰا عَلَي الْقَوْمِ الْكٰافِرِينَ. (البقرة [2] الآية 286)

و عن المؤمنات مثل امرأة عمران و امرأة فرعون، قال تعالي:

إِذْ قٰالَتِ امْرَأَتُ عِمْرٰانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مٰا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* فَلَمّٰا وَضَعَتْهٰا قٰالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهٰا أُنْثيٰ وَ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثيٰ وَ إِنِّي سَمَّيْتُهٰا مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُهٰا بِكَ وَ ذُرِّيَّتَهٰا مِنَ الشَّيْطٰانِ الرَّجِيمِ* فَتَقَبَّلَهٰا رَبُّهٰا. (آل عمران [3] الآيات 35- 37)

و عن الثانية: وَ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قٰالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ. (التحريم [66] الآية 11)

5- و قال تعالي حكاية عن العباد الصابرين الصادقين:

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا إِنَّنٰا آمَنّٰا فَاغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا وَ قِنٰا عَذٰابَ النّٰارِ.

(آل عمران [3] الآية 16)

6- و قال تعالي عن عِبٰادُ الرَّحْمٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَي الْأَرْضِ هَوْناً:

وَ الَّذِينَ

يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنّٰا عَذٰابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذٰابَهٰا كٰانَ غَرٰاماً …

وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا هَبْ لَنٰا مِنْ أَزْوٰاجِنٰا وَ ذُرِّيّٰاتِنٰا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنٰا لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً. (الفرقان [25] الآيات 65 و 74)

7- و قال تعالي عن الراسخين في العلم:

رَبَّنٰا لٰا تُزِغْ قُلُوبَنٰا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنٰا وَ هَبْ لَنٰا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّٰابُ. (آل عمران [3] الآية 8)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 398

8- و قال تعالي حكاية عن المبتلين بعذاب الطغاة كما عن سحرة فرعون الذين آمنوا بربّ العالمين ربّ موسي و هارون بعد ما رأوا اعجاز موسي و هددهم فرعون قالوا إنّا الي ربنا منقلبون:

رَبَّنٰا أَفْرِغْ عَلَيْنٰا صَبْراً وَ تَوَفَّنٰا مُسْلِمِينَ. (الاعراف [7] الآية 126)

9- و قال تعالي حكاية عن المجاهدين:

رَبَّنٰا أَفْرِغْ عَلَيْنٰا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدٰامَنٰا وَ انْصُرْنٰا عَلَي الْقَوْمِ الْكٰافِرِينَ.

(البقرة [2] الآية 250)

و أنت تري في تلك الدعوات ان المطالب من اللّه تعالي علي أيّ مستوي من المعاني، و كيف كانت النفوس الداعية و تفكيرها في الخلقة و الخالق و الحياة، فكانوا لاجئين الي اللّه تعالي قانتين متضرّعين إليه طالبين منه توفيق الطاعة و العمل الصالح و شكر النعمة و ذريّة طيّبة صالحة و ان لا يجعلوا فتنة للكفّار و الظلمة، و النجاة منهم و من أعمالهم، و الصبر علي النوائب، فالنصرة علي الكفار و التوفّي مسلما باستيفاء تمام اناء الحياة مسلما، هذا كلّه في الدنيا، ثم العفو و الغفران عن الذنب و الخطأ و صرف نار جهنّم و التوقي عنها و قبول الأعمال و تتميم النور في الآخرة.

هكذا لا بدّ و ان ندعوا اللّه تعالي و نناجيه لطلب المعالي القيّمة في الدنيا و الآخرة دون الأداني الموهونة، الملاعب للأطفال، ربنا

لا تجعلنا فتنة للظالمين و انصرنا علي القوم الكافرين و لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا و توفّنا مسلمين. ربنا تقبّل منّا و اغفر لنا و ارحمنا و اصرف عنّا عذاب جهنّم و أجعل لنا نورا آمين ربّ العالمين.

و ليس لنا ان لا نلتفت الي طبع الانسان بما هو في ابتهالاته في ذلك الختام و انه هو الذي خلق ضعيفا «1» هلوعا، اذا مسّه الشرّ جزوعا، و اذا مسّه الخير منوعا «2». قال

______________________________

(1)- قال تعالي: «يُرِيدُ اللّٰهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسٰانُ ضَعِيفاً». (النساء [4] الآية 28)

(2)- قال تعالي: إِنَّ الْإِنْسٰانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذٰا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذٰا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً».

(المعارج [70] الآيات 19- 21)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 399

تعالي: وَ إِذٰا مَسَّ الْإِنْسٰانَ ضُرٌّ دَعٰا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذٰا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مٰا كٰانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلّٰهِ أَنْدٰاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحٰابِ النّٰارِ. (الزمر [39] الآية 8)

و قال تعالي: لٰا يَسْأَمُ الْإِنْسٰانُ مِنْ دُعٰاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ* وَ لَئِنْ أَذَقْنٰاهُ رَحْمَةً مِنّٰا مِنْ بَعْدِ ضَرّٰاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هٰذٰا لِي وَ مٰا أَظُنُّ السّٰاعَةَ قٰائِمَةً … وَ إِذٰا أَنْعَمْنٰا عَلَي الْإِنْسٰانِ أَعْرَضَ وَ نَأيٰ بِجٰانِبِهِ وَ إِذٰا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعٰاءٍ عَرِيضٍ. (فصّلت [41] الآيات 49- 51)

و قال تعالي: وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنّٰا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنٰاهٰا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ* وَ لَئِنْ أَذَقْنٰاهُ نَعْمٰاءَ بَعْدَ ضَرّٰاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئٰاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. (هود [11] الآية 9- 10)

و غيرها من الآيات في ذلك السياق «1» أو ما تقصّ قصّته و إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَيَطْغيٰ* أَنْ رَآهُ

اسْتَغْنيٰ (العلق [96] الآية 6- 7)، لا اذا استغني، و انه في كبد، يحسب ان لن يقدر عليه أحد «2» و هو كادح الي ربه كدحا فملاقيه «3» و قد جعله اللّه سميعا بصيرا و هداه السبيل اما شاكرا و إمّا كفورا «4».

______________________________

(1)- مثل قوله تعالي: «وَ مٰا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّٰهِ ثُمَّ إِذٰا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ* ثُمَّ إِذٰا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» (سورة النحل [16] الآية 53- 54) و ذلك الفريق هو الانسان و لا ايمان حقا.

و قال تعالي: «وَ إِنّٰا إِذٰا أَذَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنّٰا رَحْمَةً فَرِحَ بِهٰا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسٰانَ كَفُورٌ». (الشوري [42] الآية 48)

و قال تعالي: «وَ إِذٰا مَسَّ الْإِنْسٰانَ الضُّرُّ دَعٰانٰا لِجَنْبِهِ أَوْ قٰاعِداً أَوْ قٰائِماً* فَلَمّٰا كَشَفْنٰا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنٰا إِليٰ ضُرٍّ مَسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ» (يونس [10] الآية 12)، و كذا الآيات 21 الي 23 من هذه السورة.

و قال تعالي: «وَ إِذٰا مَسَّ النّٰاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذٰا أَذٰاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ». (الروم [30] الآية 33)

(2)- قال اللّه تبارك و تعالي: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ فِي كَبَدٍ أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ».

(البلد [90] الآية 4- 5)

(3)- قال تعالي: «يٰا أَيُّهَا الْإِنْسٰانُ إِنَّكَ كٰادِحٌ إِليٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلٰاقِيهِ». (الانشقاق [84] الآية 6)

(4)- قال تعالي: «إِنّٰا خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشٰاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنٰاهُ سَمِيعاً بَصِيراً* إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ السَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً». (الانسان [74] الآية 2- 3)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 4، ص: 400

الا ان هذا طبعه و لا ايمان دون ما اذا كان مؤمنا باللّه

تعالي متيقّنا ان الأمور كلها بيده و ان له ما في السموات و ما في الأرض و مقاليدها و الخلق و الأمر، يعطي من يشاء، فانه حينئذ مسلّم وجهه إليه تعالي في كل حال و يطمئن قلبه بذكر اللّه و ان مشيّته خيرا دائما عَسيٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسيٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ البقرة [2] الآية 216 … فَعَسيٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً النساء [4] الآية 19.

و لذلك تري الاستثناء في قوله تعالي: وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنّٰا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنٰاهٰا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ* وَ لَئِنْ أَذَقْنٰاهُ نَعْمٰاءَ بَعْدَ ضَرّٰاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئٰاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (هود [11] الآية 9- 10)، بقوله تعالي: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ هود [11] الآية 11، و كذا ذيل آية الزمر: أَمَّنْ هُوَ قٰانِتٌ آنٰاءَ اللَّيْلِ سٰاجِداً وَ قٰائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبٰابِ الزمر [39] الآية 9، و دون ما اذا كان مؤمنا لا علي يقين فان: مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّٰهَ عَليٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصٰابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصٰابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَليٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ الْخُسْرٰانُ الْمُبِينُ (انظر الي سورة الحج [22] الآيات 11- 15). الآيات.

اللّهم اجعلنا من عبادك الصالحين المتذكرين و ارزقنا خير الدنيا و الآخرة، و تقبّل منّا هذا المجهود و اجعله ذخرا في يوم الميعاد، و لقد فرغنا منه و الساعة الحادية عشرة و

النصف من بعد ظهر يوم الاثنين السادس و العشرين من شهر ذي الحجة الحرام سنة خمس و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة علي مهاجرها الف تحية، و انا مبعد في رودبار و الحمد للّه أوّلا و آخرا، و هو الموفق و المعين.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.